العراق بعد أحداث الحويجة

TT

في كل مرة أكتب مقالا عن العراق، أجد نفسي في معاناة غريبة. أسأل نفسي عن أي وجوه العراق سأكتب؟ فللعراق وجهان مختلفان، كوجهي «يانوس»، وجه يفيض بالسعادة والآخر بالمعاناة.

كان العراق رمز الحضارة والثقافة والعلوم في تاريخ الإسلام، وكانت بغداد واحدة من أهم الحواضر الثقافية في العالم، ورأينا كيف كانت تيارات العلوم والفلسفة والأدب والترجمة تتلاقى مع بعضها في بيت الحكمة.

كانت بغداد مرفأ عظيما للعلوم، ومكانا لصياغة الأفكار والآراء ثم انتقالها إلى أماكن أخرى. وبرأيي كان نقل الكلمات أكثر أهمية من نقل البضائع. ومن المدهش أيضا استمرار هجرة الأفكار والكلمات من حضارة وثقافة إلى أخرى.

كان بيت الحكمة والمدرسة النظامية، وكلاهما في بغداد، من دون شك أهم مراكز أكاديمية في العالم، وهو ما يؤكد الدور الذي لعبته بغداد كأهم مركز للعلوم والمعرفة في العالم أجمع، لا في الدول الإسلامية فقط.

على الجانب الآخر، أظهرت الخمسون عاما الماضية، والعقد الماضي على وجه التحديد، عراقا جديدا. وبدلا من الثقافة والإنسانية والتسامح، ارتبط العراق الجديد بكارثة.

أعتقد أن هذه الفترة المأساوية من العنف والكراهية والقتل بدأت في عام 1963، باغتيال عبد الكريم قاسم، السياسي المتميز والشخصية العظيمة، ومنذ ذلك الحين تنامى القتل والعنف في العراق، وكان صدام نتاجا ورمزا لهذه الثقافة.

في الوقت الراهن يواجه العراق كارثة متوقعة ربما تكون أسوأ من أي كارثة أخرى في تاريخه، فقد ينقسم العراق إلى ثلاثة أجزاء، فتصر المجموعات الثلاث (الشيعة والسنة والأكراد) على شيعية وسنية وكردية كل منهم، وغاب عن بال الطائفية عنصران في غاية الأهمية: العراق والإسلام. وركز الجميع على مصلحته، وصدق فيهم قول المولى عز وجل: «قل كل يعمل على شاكلته» (الإسراء: 84).

لقد وضع رسولنا الكريم مصطلحي المهاجرين والأنصار للتخلص من القيم القبلية والتركيز على القيم المشتركة. لكن في الدولة الأموية انتهجت استراتيجية أخرى، عندما نُسب كل شخص إلى قبيلته أو قبيلتها الأصلية، وألغي لقبا المهاجرين والأنصار الشائعان.

بدا واضحا أن التركيز على أرضيات مشتركة بين الدول والأديان استراتيجية ناجحة نشرها نبينا. ففي القرآن على سبيل المثال، لدينا دعوة عظيمة، تقترب إلى الناس بالوصف كاليهودية والمسيحية والزرادشتية والصابئة.

«قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللـه ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللـه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» (آل عمران: 64).

ويروى عن معاوية أنه أراد أن يحيي القيم القبلية. وعندما حضر نفر للقائه، سأل عن نسبهم، فقال له حاجبه إنهم من المهاجرين، وهو ما رد عليه معاوية بضرورة تسمية الأفراد بقبائلهم وأنسابهم. هذه الخطوة كانت عامل تغيير مهما في تاريخ الإسلام في القرن الأول الهجري.

وعلى الرغم من حلم جورج بوش، لم يتحول العراق إلى رمز للديمقراطية في الشرق الأوسط، والأسوأ من ذلك أنه غير قادر على حل مشكلاته الخاصة. الآن يثور سؤال مهم: لماذا يقف العراق على شفير كارثة، وفشلت الخطة الأميركية بشكل كلي؟

دعونا نركز على قضية الطائفية في العراق التي تزداد بقوة بين الشيعة والسنة والأكراد، وفي مقال متميز، كتب رشيد الخيون:

«فتحولت فلاليج السواد إلى مخازن للسلاح الثقيل، ومكامن للقادمين من أفغانستان، فعلى إحدى المنائر كتب اسم أفغانستان. وكتب الإخوة العرب القادمون من هناك عبارات لم يكتبها الفلوجيون طوال عمر بلدتهم الغارق بالقدم، مثل (ارفع رأسك أنت من الفلوجة)، و(من الفلوجة تحرر القدس) وغيرها».

أستطيع القول إن تطور الفلوجة مثال واضح على تطور العراق، الذي يقف على شفا حرب أهلية لا نهاية لها، وكارثة قد لا يمكن تجاوزها بسلام، ونهاية دائمة للعراق كدولة موحدة. وستجعل العراق يمر بما عانته يوغوسلافيا السابقة التي انقسمت إلى ست دويلات صغيرة، وينقسم إلى ثلاث مناطق.

هذه هي النتيجة الحتمية للطائفية ونهاية العراق.

هل هناك أي ضوء في نهاية النفق؟ بالطبع هناك، لكن وفق شروط معينة.

أولا: ينبغي أن يدرك كل العراقيين، بغض النظر عن العرق أو الدين، أن حجر البناء الرئيس هو العراق الموحد. فقد قال الخميني ذات مرة إن حماية النظام أكثر أهمية من حماية الإسلام. وبعبارة أخرى، فهو يعتقد أن الحقيقة أكثر أهمية من النظرية، وأنا أود القول إن حماية العراق أكثر أهمية من الإسلام السياسي ومن الطائفية السنية أو الشيعية.

ثانيا: ينبغي علينا أن ندرك أن جوهر الإسلام هو العدل والتسامح، فيقول ربنا: «لا إكراه في الدين» (البقرة: 257).

ثالثا: إن الخطاب القرآني جاء إلى الناس كافة، فيقول الله عز وجل «يا أيها الناس»، ويقول أيضا: «يا أيها الذين آمنوا».

فمنذ أول آية وحتى آخر آية، لا يوجد خطاب خاص بالعرب والمسلمين. وعلى الرغم من حديث القرآن عن حوادث مختلفة بشأن العرب والمسلمين، فإنه لم يخاطبهم بـ«يا أيها العرب» أو «يا أيها المسلمون». كيف استغل قرآننا العظيم كأداة سياسية لتشويه القرآن والإسلام. من يعرف عدد المسلمين الذين قتلوا على يد مسلمين؟ وأحيانا كانوا يقتلون بعضهم بعضا أثناء الصلاة. في نهاية هذا الطريق المليء بالكراهية والقتل الذي لا نهاية له، لا يوجد سوى الدمار.

وفي ديوان مجنون ليلى قال قيس:

يقولون ليلى بالعراق مريضة ** فما لك لا تضنى وأنت صديق

سقى الله مرضى بالعراق فإنني ** على كل مرضى بالعراق شفيق

الآن العراق سقيم ويعاني الآلام، والحويجة هي نقطة التحول في تاريخ العراق المعاصر. فهل ستكون نهاية الطائفية أم نهاية العراقية؟