بشار بطل العرب.. وبطل بانياس

TT

في اللحظة التي قامت فيها طائرات حربية إسرائيلية بقصف مقرات للحرس الجمهوري التابع لبشار الأسد وأخيه ماهر في قلب دمشق وأطرافها، وسفوح جبل قاسيون، حيث قصر بشار، نسي كثيرون مجزرة قرية البيضا وغيرها في ريف بانياس، حيث القتل على الهوية للنساء والأطفال والشيوخ، وبالسلاح الأبيض من قبل «كائنات» بشار الأسد.

نسي كل ذلك دراويش التيار القومي، ومعهم ثلة من «النيو إخوان» وطبعا، الجماعات الشيعية المناصرة منذ البدء، منذ لحظة أطفال درعا، لرواية بشار، ومرجعية بشار، وحسن نصر الله، السيد خامنئي في طهران. فقط لأن إسرائيل دخلت على الحلبة.

تشعر وكأن القوم أزيح عنهم حمل ثقيل، فهم منذ بدأ نظام بشار بالتفظيع والقتل، من خلال فرقة ماهر، وشبيحة آل الأسد وآل شاليش وآل مخلوف، وكل أعضاء المافيا الأسدية، وهم في «حيص بيص»، من جهة هم صفقوا وهللوا لما سموه الربيع العربي في مصر وتونس، ومن جهة نكصوا واحتاروا حينما وصلت الثورة إلى نظام بشار.

بعد الغارة الأخيرة، فجأة، نسيت كل فظائع ومخازي بشار في الشعب السوري، أصبحت القصة، والقصة فقط، عند هؤلاء، هي إسرائيل، وكرامة الأمة، والعدو الصهيوني، وأنه إذا دخل الصهاينة على قصة صراع، ففورا الحق مع الطرف الذي أضر به الصهاينة، هكذا، «على العمياني» كما يقال!

الحق أن هذا، فوق أنه يمثل رؤية ساذجة لا تحفل بتناقضات المصالح، وتعقيد الصراعات بين البشر، هو أيضا مناقض لواقع الحال، وطبيعة العلاقة بين إسرائيل وبين إيران الخمينية.

ما بين إيران وإسرائيل، ليس صراع وجود ونفي في المنطقة، في القراءة الصحيحة، بل هو صراع «تنافس» على النفوذ، والفرق بين الأمرين، فرق كبير. المتنافسون، لديهم قانون يحكم لعبة التنافس، وحدود لهذه اللعبة، ووقتها، وسقفها، بينما صراع الوجود والنفي، هو صراع صفري، لا يتحقق فيه الانتصار إلا بنفي وإلغاء الطرف الآخر ماديا ومعنويا.

بعبارة أخرى، تخيل لو لم تكن إسرائيل موجودة، كيف ستكسب الدعاية الإيرانية الخمينية داخل العالم العربي؟ كيف سيكسب حزب الله عواطف الجماهير؟ وفي المقابل تخيل إسرائيل من دون وجود «البعبع الإيراني»، كيف ستشد الوتر الإسرائيلي الداخلي، وتحشد المشاعر الوطنية، وكيف ستسوق نفسها للمعسكر الغربي كله بوصفها خط الدفاع المتقدم عن العالم المتحضر؟!

نظام بشار، وقبله حافظ، منذ نهاية حرب 1973، أصبح يؤدي «وظيفة» إقليمية حساسة، بالنسبة للغرب وإسرائيل، يشاغب لفظيا، ويسوِّق لخطاب قومي ثوري، ويدعم بعض الحركات المسلحة «المشاغبة» لإسرائيل، ولكن تقف الأمور عند هذا الحد، ولا يسمح بتجاوزه، وإذا تم تجاوزه، يؤدب المتجاوز في الحال، من قبل كوماندوز إسرائيل وقواتها الجوية، ومن الضغط الغربي. والغرض من هذا الأمر «ضبط» عملية الصراع العربي الإسلامي مع إسرائيل، لأن الغرب وإسرائيل ليسوا مثل قومنا، يفكرون بطريقة حالمة، بل بطريقة واقعية، وبما أن إلغاء فكرة الصراع مع إسرائيل غير واردة في الوجدان العربي والإسلامي، فليس من حل «واقعي» إلا ضبط هذا الصراع وإبقائه ضمن حدود معلومة، وتحمل «أقل الضررين في سبيل دفع أعلاهما».

هناك فكرة تسوَّق في بعض الدوائر الغربية والأميركية بأن المواجهة مع الغرب ليست قضية تشمل المسلمين كلهم، بل هي قضية «سنية» خالصة، وأن فكرة المواجهة مع الغرب يمكن أن تهذب أو حتى تلغى، أو «تعقلن» لدى المسلمين الشيعة، أقول هذا الكلام ليس بغرض الهجاء الديني، بل لمحاولة قراءة الأفكار الغربية المطروحة في كيفية التعامل مع العالم الإسلامي، وعلى كل حال فهذه الفكرة ذكرها بشكل واضح وسلس وممتع (ولي نصر) الباحث الأميركي من أصل إيراني، أستاذ سياسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في دائرة الدراسات العليا التابعة للأكاديمية الأميركية البحرية، حيث ذكر في مقدمة الكتاب واقعة دالة، متحدثا عن: «صديق باكستاني عمل خلال الحرب على السوفيات في الثمانينات، ضابط ارتباط مع البنتاغون ذكر لي أنه في تلك الأيام عندما كانت إيران وحزب الله يشنان حربا نشطة على أميركا، وكان المجاهدون الأفغان هم الأخيار حيث كانوا يحاربون السوفيات، كثيرا ما كان يحلو لنظيره ضابط الارتباط الأميركي وصف الشيعة، على سبيل المعابثة، بأنهم (غيلان متعطشة للدماء) فكان صديقي الباكستاني يرد بأن الأميركيين لا يفهمون الأمور حق الفهم، حسبك أن تنتظر لترى الأمور على حقيقتها، وإن المشكلة ستكون مع السنة فهم المستكبرون، والشيعة هم المستضعفون. لكن بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 فوجئ صديقي الباكستاني بعودة ضابط الارتباط الأميركي مرة أخرى إلى باكستان وقد جاء لزيارته قائلا: «هل تتذكر نقاشنا القديم حول السنة والشيعة؟ أريدك أن تشرح لي قولك إن السنة هم الذين سيشكلون لكم المشكلة الحقيقية».

ولعل مما يجلي هذا الوعي بالدور «الوظيفي» الإقليمي للنظام الأسدي بالنسبة للغرب وإسرائيل، تكرير بشار الأسد أكثر من مرة إنه حامي العلمانية في المنطقة، وأنه حارس الأقليات، وهذا يؤثر في الشعور الغربي كثيرا، خصوصا في منطقة مثل منطقة الشام، ذات الخلفية التاريخية المتشابكة بين المسلمين والمسيحيين. وفي الوقت نفسه يطلق بشار مفتيه (حسون) ليدعو «للجهاد» معه!

ومما يجلي هذا الشعور بالدور الوظيفي أيضا لنظام بشار، قول الملياردير السوري رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد، في مقابلته الشهيرة مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية في 11 مايو (أيار) 2011، محذرا من أنه «لن يكون هناك استقرار في إسرائيل» إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا.

حسنا، كيف نفسر إذن الغارات الإسرائيلية على نظام يؤدي دورا مهما لإسرائيل؟ باختصار، لأنه لم يعد قادرا على تأدية الوظيفة كما ينبغي، فهو نظام صبر عليه الغرب، بل ودافعت عنه تل أبيب منذ بداية الثورة عليه، وكبحت جماح واشنطن عن التدخل لإسقاطه، وهذا معروف لمن تتبع التسريبات والتقارير الصحافية منذ سنتين، بل وقالها بعض خبراء إسرائيل الاستراتيجيين علنا، ما حصل مؤخرا، حسب ظني، هو تضافر عدة عوامل في وقت واحد:

* مفهوم إسرائيل لأمنها القومي قائم على مبدأ الضربة الاستباقية، وتوسيع المدى الجغرافي والحيوي لهذا الأمن تعويضا عن ضيق المساحة الجغرافية لدولة إسرائيل، ومن هنا يصبح تحول سوريا إلى «أفغانستان» أخرى، مأوى للجهاديين، ومرتعا للسلاح، وضم مع سوريا انسلاخ الغرب العراقي السني ربما، هنا تصبح إسرائيل مكشوفة أمنيا وسياسيا أمام بحر من الفوضى على كامل أفقها الشرقي، كله سيحاول استهداف إسرائيل لكسب الشرعية على البقية، فأهون الضررين التضحية بالموظف الذي انتهت فائدته، والمراهنة على وضع جديد، بحكم مستقر ومركزي، وقد تكون إسرائيل فتحت قنوات سرية مع أطراف في المعارضة لضمان بقاء الحال كما هو منذ فض الاشتباك في حرب الجولان.

* إيران وبشار الأسد، قد تجاوزا «الخط الأحمر» الإسرائيلي من خلال دعم منظومة سلاح حزب الله بصواريخ وأسلحة نوعية، تخرج عن السقف المسموح، كما أشرنا آنفا لطبيعة العلاقة بين إيران وإسرائيل، والأخيرة «لا تمزح» في هذه الأمور.

* ربما شعر باراك أوباما، الرئيس الأميركي، بالحرج من خرق بشار الأسد «لخطه الأحمر» في استخدام السلاح الكيماوي، خصوصا أن بشار قال لبعض زواره الأجانب، إن الأميركان لديهم براغماتية سياسية، وسيتفهمون كل فعلاته، مما عرض أوباما لهجمات حادة من الجمهوريين وغيرهم، تتهمه بالضعف وتعريض القوة والهيبة للإهانة، ومصالحها للخطر، فربما سمح لإسرائيل بهذه الضربة نوعا من «تأديب» بشار، ليس أكثر من ذلك.

بكل حال، إن كانت إسرائيل شريرة لأنها قتلت وشردت سكانا عربا، واحتلت أرضهم، فإن نظام بشار إن لم يكن مساويا في الجريمة لها، فهو أفظع وأبشع منها، والموت واحد، والمقتول لا يهمه دين قاتله ولا جنسيته، بل يهمه أن يسلم من القتل، أو يخلصه أي أحد من هذا القتل، ولو كان الشيطان نفسه، ولو كنت أنت غريقا على وشك الهلاك، فلن تجري تحقيقا عن اليد التي ستمتد لك تحت الماء..!

نظام بشار كره الناس.. فكرهوه.

[email protected]