العزل السياسي

TT

العزل السياسي ليس تاريخا جديدا في المنطقة العربية، فهناك حالات كثيرة، خاصة في الجمهوريات التي تشهد الآن تغييرات، فُرض فيها، خاصة في الخمسينات والستينات، ضد شخصيات سياسية من أنظمة سابقة، وثبت الآن أنه لم تكن هناك حاجة حقيقية لفرض العزل السياسي على عشرات الشخصيات، وكانت الدوافع انتقامية أو شخصية في أحيان كثيرة، وكانت الأضرار أكثر من المنافع.

وإذا كان التغيير السياسي في الأنظمة أو في الحكم أو في آيديولوجيته لا بد أن يفرز قوى متخاصمة أو متصارعة، تفرض على صاحب السلطة الجديد أن يحاول تأمين سلطته ضد القديم أو خصومه، فإن طريقة التعامل وإدارة الأمور يجب أن تستفيد من الخبرة التاريخية والخسارة والمكاسب من تجارب تاريخية سابقة، حتى لا يبدو الأمر وكأن التاريخ يعيد نفسه بشخصيات مختلفة، لكن بالأساليب نفسها، وكأننا لم نتعلم شيئا.

مناسبة هذا الحديث هو قانون العزل السياسي الجديد في ليبيا، المفترض أن يشمل الذين عملوا مع النظام السابق. وهو في عنوانه العريض يبدو منصفا، باعتبار أنه لا أحد يستطيع الدفاع عن الممارسات التي قام بها نظام القذافي، الذي استعاض عن مؤسسات الدولة بتركيبة شخصية عجيبة، وصلت إلى درجة شخصنة الجيش في كتائب فلان وفلان من الأبناء، كما لا يستطيع أحد أن يدافع عما ارتكبه النظام من جرائم خلال محاولته الاحتفاظ بالسلطة في فترة الثورة الليبية التي اضطرت إلى حمل السلاح، في حرب سقط فيها عشرات الآلاف، ودعمها حلف الناتو.

لكن هذا القانون على أرض الواقع خلق إشكالية لا يزال يتعين معالجتها، باعتبار أن وزراء ونوابا حاليين يمكن أن يفرض عليهم العزل السياسي، الذي يمنعهم من ممارسة السياسة أو تولي وظائف عامة لمدة قد تصل إلى 10 سنوات، واضطر المشرعون إلى استثناء رئيس الوزراء ورئيس البرلمان منه.

وليست ليبيا الحالة الوحيدة، ففي مصر هناك شيء مماثل تجاه أعضاء الحزب الوطني السابق، وفي تونس كذلك هناك أيضا اتجاه لذلك، أما اليمن، فهو استثناء بحكم التسوية التي حدثت، وسمحت بانتقال السلطة برعاية خليجية، ومن الأمم المتحدة.

للتذكير، فإن أبرز التجارب التاريخية القديمة للعزل السياسي قانون الغدر الذي صدر بعد 23 يوليو (تموز) 1952، ضد أحزاب وشخصيات النظام السابق، الذي اعتبر قانونا سيئا، لأنه أخذ الصالح بالطالح، وتم إهماله ونسيانه حتى من نظام 23 يوليو، بسبب سمعته السيئة. وهناك (حديثا) تجربة العراق في قانون اجتثاث البعث، الذي أدى إلى انقسامات وحروب وعنف، في حين أنه كان يمكن تجنب ذلك بحصره في القيادات بدلا من تعميمه ليقصي عشرات الآلاف كانوا مضطرين في أيام النظام السابق إلى الالتحاق بالحزب، في بعض الأحيان، لمجرد الحصول على وظيفة.

مفهوم أن كل نظام يحتاج إلى حماية نفسه، وقد يضطر إلى العزل السياسي تجاه أشخاص خطرين، لكن التجارب التاريخية السابقة تشير إلى أن ذلك يجب أن يكون بميزان من الذهب، وأن يراعي العدالة، ويكون في أضيق الحدود ضد الذين ارتكبوا جرائم أو مخالفات، خاصة إذا كان النظام الجديد يفتقد الخبرات، ويحتاج إلى كوادر قادرة على تسيير شؤون الدولة.

وفي كل الحالات، فإن الأفضل أن يطبق القانون الاعتيادي على شخوص النظام السابق المتهمين بجرائم أو مخالفات، لسببين رئيسين؛ الأول أن أحكام القانون العادي، حتى لو كانت بطيئة، فمن الصعب المجادلة بأنها أحكام سياسية، والثاني أن الأهم بالنسبة إلى أي جديد يريد تثبيت سلطته أن يسرع بالاستقرار، وهو لا يتحقق إذا توسعت دائرة من يجري إقصاؤهم وعزلهم. فالعزل هو قانون استثنائي يعني حياة غير طبيعية، وأهم أضراره إخافة المستثمرين وخروج الأموال بحثا عن ملاذ آمن.. هذا حدث سابقا، ويحدث حاليا.