بعيدا عن السلاح

TT

ذكرت سابقا كيف التفت الحكومات الغربية على تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) في رفض العنف، بابتداع فكرة «الحرب العادلة». وراحت كل حكومة تفسر حربها وعدوانها وغزوها بأنها تخوض حربا عادلة. بيد أن بعض رجال الدين شعروا بهذه المغالطات والتحايلات فثاروا ضدها وكفروها. كان منهم القس منوسيمون في سويسرا. أكد رفض العنف بأي صورة. استطاع أن يجمع حوله عددا من المناصرين بما أسفر عن ولادة طائفة دينية جديدة عرفت بالمانونيين في القرن 16. يرفض هؤلاء حمل السلاح والمشاركة في أي عنف، ويدعون للرجوع إلى حياة المسيح في بساطتها وتكريس حياتهم لمساعدة الآخرين أينما كانوا. رأيت في فلسطين المدرسة والمزرعة التي أقاموها لمساعدة الفلسطينيين ومحاولة إحلال التفاهم والسلام بينهم وبين اليهود في مشاريع مشتركة.

بيد أن السلطات اضطهدتهم في ألمانيا لرفضهم الخدمة العسكرية فهاجروا لروسيا ولقوا المصير نفسه، حتى رحلوا إلى أميركا وأقاموا مستعمرات خاصة بهم. زرت أحدهم من المتزمتين الذين يرتدون الثياب القديمة نفسها ويرفضون استعمال السيارات والراديوهات والتلفزيونات وكل مظاهر الحياة المعاصرة. تقضي نساؤهم النهار في حياكة وتطريز الألحفة والسجاد لبيعها في آخر السنة لمساعدة الشعوب الفقيرة.

وفي القرن التالي السابع عشر، دعا الكاهن جورج فوكس في إنجلترا للتمسك بالفكرة نفسها، وهي رفض العنف بكل صوره التزاما بتعاليم السيد المسيح. والتفت حوله جمعية الأصدقاء الدينية التي عرفت بطائفة الكويكرز. ولكن هؤلاء اختلفوا عن المانونيين في نظرتهم العملية وعصرنتهم.. بدلا من النظر للوراء نظروا للأمام. أصبحوا يؤمنون بفضيلة العمل والكسب الشريف. يعود لهم الفضل في تأسيس أمهات الشركات التعاونية وفتحوا البنوك الكبرى مثل «باركليز» و«لويدز» لغرض توفير الأموال والقروض للمحتاجين والعازمين على العمل وفتح المشاريع التعاونية. دعوا لمساواة المرأة ومنع الرق والاستعباد وشرب الخمر وشن الحروب واللجوء للعنف. أخذوا يطلقون على معابدهم «بيت الأصدقاء»، على اعتبار أن كل المؤمنين بالله أصدقاء. لا يوجد قس أو كاهن في هذه المعابد، بل يستطيع أي واحد من الحاضرين أن يقف ويتلو خطبة الجماعة أو يروي أي موعظة تخطر له. ولا تسمع أي موسيقى أو تلاوات أو ترانيم فيها. فهم يعتقدون أن السكوت والسكون والتأمل الصامت خير طريقة للعبادة ومعرفة الله ودعم الأمن والسلام. قاموا بعمليات كبرى من أجل السلام وضد الحرب. أشهرها إرسال سفينة محتشدة بالمتطوعين من كل الشعوب للوقوف في طريق الأسطول الأميركي وعملياته في حرب فيتنام. وكثيرا ما لعب رؤساؤهم أدوارا كبيرة في التفاوض بين الأطراف المتنازعة والمتحاربة لحملهم على فض النزاع ووقف القتال. من مشاريعهم، فتح مدارس وكليات في شتى جهات العالم، يقوم التدريس فيها على تأكيد مبادئ السلام ورفض العنف وإشاعة روح الأخوة بين التلاميذ.

وقد لقي الكويكرز والمانونيون اضطهادا شنيعا من السلطات، والجمهور أيضا، بسبب رفضهم المشاركة في الحرب والقتال فاتهموهم بالجبن والخيانة.