المعارضون الضميريون

TT

اشتهرت الحرب العظمى (1914 - 1918) بمعارك قلما شهدت الإنسانية مثيلا لها في بشاعتها، حيث تقاتل الخصوم، كثير منهم شعراء وأدباء وفنانون وموسيقيون كبار، بالسكاكين والحراب في خنادق غارقة في الطين والأوحال والدماء وتحت أمطار مستمرة ونيران القنابل المتواصلة. تعرض الكثير منهم للجنون والانهيار العصبي، وراحوا يهيمون في الجبهة فاقدين. اعتبرهم قادتهم جبناء وخونة وأعدموهم. أثار ذلك حنق الكثيرين. وقد رفض بعض المثقفين واليساريين الاشتراك في القتال بحجة أنه يتعارض مع ضمائرهم. كان بينهم كثير من وجهاء القوم كاللورد بروكوي. حكموا عليهم بالسجن بتهمة الخيانة. كما تعرضوا لمضايقات الجمهور ممن اعتبروهم جبناء وخونة وراحوا يضربونهم بالحجارة والبيض الفاسد ونحو ذلك.

أعيد النظر بعد الحرب في الموضوع إثر ما أفاد به الأطباء بأن ضراوة القتال كثيرا ما توقع المحارب بانهيار عصبي تام. وصرح آخرون بأن هناك من يتعارض مع دينهم، كالمانونيين والكويكرز والبوذيين، أو ضميرهم مع العنف والقتل كالاشتراكيين والإنسانيين الذين اعتبروا تلك الحرب حربا إمبريالية. وكان يجب إعفاؤهم من الاشتراك في الحرب. إنهم مجموعة المعارضين الضميريين Conscientious Objectors. أعيد النظر فيمن أعدموا أو سجنوا لموقفهم هذا أو لانهيار أعصابهم في الجبهة وصدرت أحكام في إعادة الاعتبار لهم. ومن حينها تقبلت الدول الغربية فكرة الاعتراض الضميري للحرب. وعدلت القوانين بحيث يستثنى من التجنيد العسكري والاشتراك في الحرب من كان في هذه الفصيلة. وفي عام 1995 أصدرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قرارا يؤكد هذا الحق.

بيد أن للموضوع تفرعات وقيودا. على المعارض الضميري أن يثبت صدق دعواه. ثم تقرر لجنة عسكرية نوعية اعتراضه وقوته ومصداقيته. فقسموهم إلى فصائل. هناك من يعفى كليا من أي شيء يتصل بالحرب. الفصيلة الثانية تقضي بإعفائهم من القتال فقط ولكن عليهم المشاركة بالأعمال غير القتالية، كإسعاف الجرحى والتمريض وإعداد الطعام ودفن القتلى ونقل المعدات والعساكر، ونحو ذلك. وبالنسبة للمتدينين كالمانونيين الذين يتمسكون بملابسهم التقليدية، أجيز لهم الاحتفاظ بملابسهم وعدم لبس الأحذية والملابس الكاكي العسكرية.

وهناك الفصيلة التي تعفى من مدة الخدمة العسكرية مقابل تكريس مدة مشابهة في خدمة الإنسانية كمساعدة الشعوب الفقيرة والمتخلفة.

ومما يذكر أن بعض العساكر العراقيين تعرضوا لهذه المشكلة خلال حرب الخليج. كان منهم ضابط من أقربائي. كان يتفقد الجبهة بسيارة «جيب» مع عدد من الضباط وأصابهم صاروخ إيراني مزقهم إربا إربا، بيد أن قريبي نجا بأعجوبة غير أنه راح يطوف الجبهة يهيم على وجهه فاقدا وعيه وعقله. قبضوا عليه وحكموا عليه بالجبن والهروب من الواجب! وكذا كان مصير عدد غير قليل من العساكر العراقيين الذين أعدموا لمثل هذا السبب.

يواجه المعارضون الضميريون (غير المتدينين) في إسرائيل مشكلات مشابهة لرفضهم محاربة الفلسطينيين. وكثيرا ما تروي الصحف حكايات مثيرة في هذا الخصوص.