بائع البنفسج

TT

تحتفي فرنسا الأدبية هذه الأيام بالأعمال الكاملة لفرنسوا مورياك. كان أول من قام بالمغامرة: تخلى عن العمل الأدبي لينتقل إلى الكتابة الصحافية غير واثق من قيمة البقاء فيها، لكن ما لبث أن صار، حيا وغائبا منذ عقود، رمز الأدب الباقي في الصحافة السريعة. رغم أنه يكتب على ورق يتحول إلى غبار في اليوم التالي، فإن فكره كان خليقا بالديمومة، قال أحد مقدمي كتبه.

لم يخلط مورياك الصحافة بالأدب فقط، بل خلطها بالخلق. عادى الشيوعية والإلحاد دون أن ينجرف إلى اليمين. وعارض جان بول سارتر وموجة اليسار العنفي، من دون أن يعادي اليساريين الوسطيين غير الهدامين. وكان مقربا من شارل ديغول، ولكن دائما دفاعا عن فرنسا، لا عن الحكومة ولا عن السياسيين.

لم يكتب دائما بأخلاق وثقافة فقط، بل بمشاعر أيضا. ظل صادقا مثل طفل، ومحاربا مثل دون كيشوت ولكن بوقار تام. دخل أقرانه الكبار في صناعة التذويق والتزييف والشطط، وظلت صناعته الوحيدة الصدق. واستسهل – أو استعذب – بعض مجايليه، الرخو الأخلاقي، في الحياة الشخصية والحياة الأدبية معا، وظل هو ساكنا في ضميره وروادعه وموروثاته الأخلاقية.

كلما تناولتُ أديبا غير معروف لدى القارئ العربي، أحاول أن أبحث له عن قرين، من باب التعريف والمقارنة، تعبت في العثور على شبيه للمسيو مورياك فيما عرفت وعاصرت من صحافة العرب. ليس هيكل، لأنه لم يكتب المطولات، بل «المفكرة»، رغم قربه من رئيس الدولة. وكان يعبر عن أفكار ديغول، لكنه لم يحارب من أجل سياساته.

وليس مصطفى وعلي أمين، لأنه لم يكن يكتفي بالفكرة السريعة، بل كانت زاويته رحلة فكرية ثقافية مستمرة. وكان محافظا، بعكس أحمد بهاء الدين، لكن ربما الشبه بينهما في البعدين الأخلاقي والثقافي، إضافة إلى البعد الأول: الموهبة. كلاهما ولد وفي يده قلم عذب.

لم يكن أيضا غسان تويني. فصاحب «النهار» تفرغ للجريدة والصحافة وليس للكتابة، ولم يتكرس مثل مورياك لموقع واحد لا يغادره إلى أي شيء آخر، فيما ذهب تويني إلى السياسة والدبلوماسية غير مرة، رغم أنه لم «يترك» «النهار» لحظة واحدة.

في معظم نتاجه ظل مورياك فرنسيا رغم بعض الرحلات الخارجية، ومنها واحدة إلى موسكو التي حاولت استمالته. وكتب عن ألمانيا ولكن كقوة احتلال فقط. وكتب عن بريطانيا ولكن من ضمن الشراكة مع باريس. وكتب عن أميركا، ولكن بقدر ما تؤثر في وجود فرنسا وسياساتها وأحوالها.

أهم ما كان فيه وهو يتحول إلى أشهر كتّاب فرنسا منذ بداياته، تواضع السنبلة المليئة. كتب كثيرا بصيغة الأنا ولكن مضطرا فقط ودائما بتواضع البنفسج. وذات يوم شاهده معجب لا يعرفه في أحد مقاهي الحي اللاتيني، فنادى هذا على الصبي بائع البنفسج وقال له: خذ هذه الباقة إلى الرجل ذي القبعة هناك.