بطاقة بريدية من اليمن

TT

أنا في مستشفى اليمن الدولي في مدينة تعز التي تقع على مرتفعات وسط اليمن التي تعاني من نقص حاد في الماء يجعل الناس يستخدمون صنبور المياه لمدة 36 ساعة في الشهر تقريبا. وعليهم ملء أكبر قدر من الماء ثم الاعتماد على شاحنات توزيع المياه التي تمر في أحيائهم وتبيع لهم المياه مثل سلعة ثمينة. أزور محمد قايد، وهو عامل يبلغ من العمر 25 عاما، من قرية قريبة من قراضة، أصيب في الليلة السابقة بثلاث طلقات نارية في اليد والصدر من قبل قناص من قرية المرزوح القريبة. تتنازع القريتان على موارد المياه المتناقصة التي يحصلون عليها من ينابيع في الجبل. وقتل ستة أفراد وأصيب كثيرون في اشتباكات مستمرة منذ عام 2000 وتصاعد القتال مؤخرا، وكان القايد آخر الضحايا. يتألم القايد، لكنه أراد إخبار الناس عما يحدث هنا. لدي سؤال واحد: «هل فعلا أصبت في اشتباك على المياه؟»، يجيب وهو يجفل: «الأمر لا يتعلق بالسياسة، ولا بالإخوان المسلمين. لقد كان الأمر يتعلق بالمياه».

هناك رسالة في هذه الزجاجة. اليمن، بلد ذو جمال أخاذ، وشعب رائع، لكنه يعاني من أزمة تنمية بشرية. إنك ترى هناك نصف قرن من سوء الإدارة السياسية مع سوء إدارة للموارد الطبيعية والنفط والانفجار السكاني. مع ذلك اليمن متقدم عن سوريا ومصر بنحو عقد من الزمان من حيث نوع أزمة التنمية البشرية التي ستواجهها هذه المنطقة بأكملها.

عندما كانت عالمة البيئة الأميركية البارزة دانا ميدوز تسأل عما إذا كان أوان القيام بأي شيء تجاه التغير المناخي قد فات، كانت تقول: «لدينا وقت كافٍ تماما إذا بدأنا الآن». وبالمثل لدى العالم العربي وقت كافٍ إذا بدأ الآن. وإذا لم يتوقف الناس عن النزاع معا من أجل آيديولوجيات ميتة واختلافات طائفية والتركيز عوضا عن ذلك على تجاوز الخلل في المعرفة والحرية وتمكين المرأة، كما يحث تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية الخاص بالعرب، فلن يكون هناك أمل.

وكما أشار القايد، باتت تلك الآيديولوجيات القديمة في اليمن نوعا من الترف الآن، فالنزاع كان على المياه. لقد جئت إلى تعز من أجل كتابة عمودي وتصوير فيلم وثائقي عن المناخ والربيع العربي. وجئنا على متن مروحية تابعة للخطوط الجوية اليمنية مع عبد الرحمن الإرياني، وزير المياه والبيئة الأسبق، الذي يتحدث بصراحة ويقول: «في العاصمة صنعاء خلال فترة الثمانينات، كان عليك الحفر على عمق 60 مترا من أجل العثور على الماء. أما اليوم فعليك الحفر على عمق يتراوح بين 850 وألف متر من أجل العثور على الماء. وهناك في اليمن 15 بئرا جوفية، اثنتان منها فقط مستدامتان، في حين تنفد الأخرى بمعدل ثابت. وفي أي مكان في اليمن يمكنك رؤية الآبار الجوفية وهي تنفد، وأسوأ صراعات». من أكثر الآبار الجوفية المهددة في اليمن حوض رداع. وأضاف أنه «واحد من معاقل تنظيم القاعدة». وفي الشمال، على الحدود مع المملكة العربية السعودية، كانت محافظة صعدة من أغنى المناطق بالعنب والرمان والبرتقال. ويقول الإرياني: «لكن الينابيع بها جفت إلى الحد الذي أدى إلى جفاف الكثير من المزارع». ومهد هذا الساحة لتجنيد الحوثيين، الذين يحظون بدعم إيراني، عمال المزارع العاطلين عن العمل لينضموا إلى حركتهم الانفصالية.

بدأت هذه الكارثة البيئية في سبعينات القرن الماضي عندما انتعش قطاع النفط والبناء في الخليج وغادر نحو مليونين أو 3 ملايين عامل يمني غير ماهر قراهم من أجل العمل في المملكة العربية السعودية. ونتيجة لذلك، خلا الريف من الأيدي العاملة. وعادت النساء إلى قطع الأشجار من أجل الحصول على الحطب وتهدمت المنازل المصفوفة بسبب غياب الصيانة والترميم. وأدى كل هذا إلى تآكل واسع النطاق في التلال وتراكم رواسب الوديان الهائلة وقيعان النهر الموسمية التي كانت تستخدم تربتها الخصبة في زراعة ثلاثة محاصيل سنويا، من بينها البن الذي يشتهر به اليمن. وأضر تراكم رواسب الوادي بمجال صناعة البن مما دفع اليمنيين إلى زراعة محاصيل أخرى تحتاج إلى تربة أقل خصوبة. وكان المحصول الأنسب هو القات، وهو أوراق مخدرة يدمنها اليمنيون. مع ذلك يحتاج القات إلى الكثير من المياه، وأدى هذا إلى زيادة في استهلاك المياه الجوفية.

وتحدثت مع شيخين من القبيلتين المتناحرتين وهما عبد المؤمن (42 عاما) من قراضة، وأحمد قعيد (40 عاما) من المرزوح. وكان يجمعهما شيء مشترك وهو أن لديهما من الأبناء عشرة. وعندما سألت الاثنين عما سيحدث لمصادر المياه عندما ينجب أبناؤهم العشرة عشرة أبناء، قال كل منهما إن الله هو الذي سيرزقهم، ثم قالا: «تحلية المياه» هي الحل. مع ذلك التكلفة المالية اللازمة لتحقيق هذا أكبر من طاقة اليمن في الوقت الحالي.

يقول الإرياني: «لقد عانى اليمن من مخدرين: القات وأموال النفط السهلة. يستهلك القات كل المياه، وأغرت أموال النفط السهلة القوة العاملة الريفية بالهجرة والعمل بوظائف لا تتطلب مهارات. وبعد عودة أغلب العمال اليمنيين إلى أوطانهم، وجدوا بلدا يعاني نقصا في المياه وقلة في الوظائف ونظاما تعليميا حكوميا متداعيا. لذا لا يستطيع اليمن الحصول على ما هو في أمس الحاجة إليه وهو طبقة متعلمة ليست مرتبطة بزراعة تفتقر إلى المياه، وهذا لن يحدث دون قيادة أفضل وتوافق سياسي جديد.

غير أنه ثمة بارقة أمل، فاليمنيون مشاركون في حوار وطني مميز وسلمي يختلف جدا عن سوريا ومصر وتقدم فيه النساء ثلث المساهمات لإنتاج قيادة جديدة. وقد يبدأون من القاع، لكن لديهم أفضل فرصة بين دول الصحوة العربية للبدء إذا ما أحسنوا استغلالها.

* خدمة «نيويورك تايمز»