هناك فارق وهناك فرق

TT

هل هناك شعوب وأمم قابلة للتحضر أكثر من غيرها؟ هل هناك «جاهزية» و«ذهنية» و«استعداد» لأن تكون بعض الأمم مسالمة وأقل عنفا وبالتالي صانعة لـ«الحضارات» الخالدة، والعكس بطبيعة الحال يبقى صحيحا؟ في أوروبا القارة العجوز لا يزالون لليوم يتباحثون ويتدارسون بعمق وتمعن الفروقات الجوهرية الكبيرة في تجربتي «انفصال» دويلات يوغوسلافيا التي تشكلت من خلالها دول مثل كرواتيا وصربيا وسلوفينيا والجبل الأسود وكوسوفو والبوسنة والهرسك، ولكن هذا التكوين جاء بعد حرب دموية بشعة كانت الأسوأ في العصر الحديث بالنسبة للقارة الأوروبية، ومنها حصلت إبادة بشرية طائفية واضحة بحق المسلمين، وتطرف ديني بشع، واقتتال بيني مسيحي بين الكروات والصرب أيضا، كل هذا المشهد الحزين أدى إلى صدمة مذهلة لدى الأوروبيين، وخصوصا حينما يقارنون ما حدث مع دولة أخرى هي أيضا خارجة من قيود وغلال المعسكر السوفياتي الشيوعي وتنطلق إلى آفاق الحرية الجديدة، هذه الدولة هي تشيكوسلوفاكيا التي آثرت أن يكون هناك طلاق حضاري ومحترم بين شقيها، فتكونت نتاج هذا الطلاق الراقي دولتان هما جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا. والموضوع لا يزال يُبحث، وطبعا التجربة أعم وأهم على مستوى العالم، والأمثلة كثيرة جدا، وليس من التبسيط ولا من السذاجة أن يتم «تفسير» كل الظواهر التي تحصل حتى بحقنا في الشرق الأوسط أن يكون سببها هو التدخل الخارجي والأصابع الخفية والجهات المجهولة صاحبة الأجندات المريبة، وهي قد تكون صحيحة ودقيقة ولكن وجود الأرضية الخصبة لذلك يجعل إنجاز هذه الأهداف مسألة أسهل وتحقيق المراد منها أبسط.

هناك حضارات تحققت ونجحت بانفتاحها على الحضارات والثقافات الأخرى وتمكنت من نقل هذا الأمر إليها ليزيدها قوة ويوسع من آفاقها، وهو الذي يمثل تماما حال الأمم الواثقة والمطمئنة وغير المضطربة والقلقة والخائفة، ومن الممكن مشاهدة ذلك بعين الحقيقة في دول العالم الجديد، دول مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا والبرازيل وأستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين، دول «ضمت» العالم بقوانين وأنظمة وتشريعات مرحبة تخلت فيها عن معايير عنصرية منفرة ومدمرة. كل ذلك كان من أهم وسائل صناعة «الحضارات الجديدة» الناقلة لفكرة العولمة، وهي فكرة عابرة للحدود التقليدية والثقافات الجامدة لتتخطى المألوف والمعروف لتقدم فكرة جديدة ومختلفة ولكنها أخلاقية وتقدمية بلا جدال، ولا شك أنه التحدي الإنساني الأهم.. بوتقة الحضارات في قالب حضاري وإنساني جديد قابل للتعايش والتأقلم، ولكن كل هذا الطرح بمنظور عملي وليس فقط مبنيا على شكل تنظيري ممل.

هناك حضارات تقلصت وانكمشت مثل الهولنديين والبرتغاليين والإيطاليين والإغريق، لأن نظرتهم كانت استعمارية واستعلائية بحتة فلم يكتب لها الديمومة ولا الاستمرارية مع تغير تام في مفهوم المستعمر والمستعمر به أو عليه، لأن من كان يعيش تحت الاستعمار نال استقلاله وحريته ولحق بما كان يستعمره، وبالتالي من المستحيل أن يقبل أن يبقى متعاملا بالأسلوب القديم، ولذا فطنت الحضارات الجديدة أو دول العالم الجديد أنه من المفروض أن يكون الطرح المقدم مختلفا جدا، وهو الذي كانت عليه طروحاتها وكان النجاح حليفا لها، لأنها شكلت مغناطيسا جاذبا وبقوة تمكنت من تحقيق النجاح والاستقرار والتميز في فترة زمنية قياسية وقصيرة نسبيا.

عندما كتب الروائي الفذ غابرييل غارسيا ماركيز رائعته «مائة عام من العزلة» كان يتحدث عن مجتمع مغلق ومنعزل عن العالم، وهو وصف عبقري يوضح الفارق بين المجتمعات المعزولة والمنفتحة والأثر الكبير عليها لاحقا.

نعم هناك فرق، وهناك شعوب قابلة للتحضر وأخرى اختارت العزلة.