في النقد الذاتي للحركة الثورية في مصر

TT

قد يكون من المفيد الآن أن نقوم بالنقد الذاتي للحركة الثورية، الذي قد يسهم في تجددها الفكري والنظامي وتصحيح مسارها. فلقد عانت الحركة الثورية عدة أمراض، أهمها: الاختراقات المنظمة من عناصر مباركية، والمزايدات الثورية، والاستغراق في الحركية، والإقصائية، والتسييسية، والبعد عن ربط الفهم الثوري بالفهم الجماهيري، والتمترس حول الآيديولوجية الاستقطابية!

فالمجموعات الثورية عانت بشدة دخول عناصر مرتبطة بأنسجة «الحزب الوطني»، عملت على تفجير بعضها من الداخل، من خلال إما خلق النزاعات الداخلية بين عناصرها أو العمل على انحراف أفكارها. ويضاف إلى ذلك خضوع شخصيات تنتمي للجسد الثوري لرعاية من رجال الأعمال الذين كانوا من أعمدة نظام مبارك. ثم دخلنا في تيه من ينتمي إلى الثورة؟ رغم اتفاقنا المبدئي على الإجابة، وهكذا بدأت عمليات الإقصاء من الحركة الثورية بدعوى أن الثورة «قطار يركب أحيانا وينزل منه أحيانا أخرى»، وهذا قول باطل يراد به باطل، وهنا رحب برضوخ برجال مبارك! وأقصي شباب الحركات الإسلامية، باعتبارهم ينتمون إلى جماعات اختلفت حول قضايا اتفق عليها آخرون، وتنوسي أن من هؤلاء من ضحى قبل وفي أيام الثورة وبعدها. ومن ناحية أخرى، يعاب على شباب هذه الحركات التوقف عن التجديد والنقد والتقويم، «المرتبط بكونها ترفع شعار الإسلامية»، لأداء حركاتهم، وقيادتها التي ما تلبث أن تخرج من حفرة حتى تقع في حفرة أخرى نتيجة لغياب الرؤية والفهم الصحيح لمقتضيات المرحلة. وهكذا، فبدلا من أن تهتم الحركات الثورية بتوطيد علاقاتها بطبقات الشعب من خلال التمسك بخطابات مرتبطة بمشاكله الحياتية، اتجهت إلى تبني خطابا نخبويا، معتقده أن هذا يعكس نضجها، بينما في الحقيقة عكس فقرها عن الالتحام بالجماهير وهمومها، وفي إطار الهرولة نحو السياسي الضيق - بجانب عوامل أخرى - تحولت حركات كان بإمكانها تصحيح المسار الثوري مثل «حركة مصرنا» من حركة مدنية جامعة إلى تأييد أحد مرشحي الرئاسة، فتفككت وأفل نجمها وأصبحت «اسما إعلاميا» يتباكى عليه!

في الواقع، إن السقم الفكري الذي اعترى الحركة الثورية يرجع إلى ما يمكن أن نسميه «تشويه المخيال الثوري»، وقد كان لبعض كتاب الصحف - الذين ما برح الثوار يجلسون معهم رغبة في فهم المشهد ولم يزيدوهم إلا خبالا - دور مهم في ذلك. لقد كانت القضية المطروحة على العقل الثوري آنذاك «لا قيادية للثورة المصرية»: «لا توحدية تحت مجموعة بعينها»، فلماذا لا تكون لكم قيادة؟ هذا السؤال بكل خبثه أدى في النهاية إلى تشويه العقل الثوري الذي بني على الشبكية والتنسيقية والفعالية إلى بحث كل فرقة عن قائد لها، ليس من الشباب حتى لا تنسب الثورة إليه، بل من شخصية يزعمون أن لديها رؤية. وهكذا، قامت كل مجموعة بالتمترس خلف شخصية ما: فهناك من تمترس وراء جماعته، أو البرادعي، أو أبو الفتوح، أو حمدين، أو أبو إسماعيل، أو حزبه الوفدي الذي تحول إلى «ماكينة» لتلميع رجال مبارك وليلبس عليهم ثورية ما هم منها، وكل فرقة ألهت قائدها، فهو الملهم والقائد والمفدى والمنقذ، وتناست كل فرقة أن الثورة ما نجحت إلا من خلال الذين لا توجد بينهم صراعات تاريخية ولا آيديولوجية، بل قامت على فهم للمسار، وإن وجد الاختلاف فآليات التوافق كانت الأسهل للوصول طالما هناك منطق تقوم عليه الأفكار. ومن لم يتمترس حول شخصية، مثل «6 أبريل» و«التيار المصري»، لديه إشكاليات تتعلق بماهيته وهيكليته ونظامه الداخلي، وخططه الاستراتيجية متوسطة وطويلة المدى، فلا يمكن أن يكون كيان غير معرف بما يتناسب مع تشكيله: حركة، حزب، جماعة ضغط، ولا يمكن العمل في أي من هذه الأشكال بالأسماء الإعلامية والهياكل الهلامية والأهداف «القطاعية»، التي في النهاية تؤثر على تماسكه الداخلي: وما الانشقاقات التي تحدث مؤخرا في هذه المجموعات إلا مؤشر على تفاقم هذه الإشكاليات!

وهكذا، دخلت الحركة الثورية في نفق الصراع على السلطة، فأضحى شبابها وقودا لصراعات، بدأت قديما بقيادات أخفقت في تغيير الوضع آنذاك، ودفعت الثورة دماءها لمعادلة صفرية، إما هم في السلطة أو لا. إن الانحراف عن مقاربات الثورة، التي تتلخص في السلمية، الالتحام مع الشعب، إخراج الشباب من عبادة وعباءة مؤسساتهم وجماعاتهم الدينية إسلامية كانت أو مسيحية ليكونوا عباد الله كاملي المواطنة - أثر بالسلب على مسيرة الثورة وعلى تحقيق المطالب: فالرئيس خسر بانفكاكه عن الحركة الثورية، ووقع تحت ابتزاز، بل ورحمة المؤسسات العسكرية والأمنية، والحركة الثورية خسرت بانفكاكها عن مفاتيح الثورة المصرية، وفي انغماسها في الاستقطابية ابتعدت عن كشف ملفات الفساد التي تمتلئ بها مؤسسات الدولة، بل وسمحت لقوى الفساد بـ«ترتيب أوراقها» التي ستحميها من العقاب من خلال منظومة قوانين مبارك التي رضخنا لها جميعا كأنها وحي منزّل!

إذن، يقع على عاتق الحركات الثورية الآن أولا: العمل على إعادة تطهير العقل الثوري مما لحقه من تشويش في الأفكار والقيم والمعاني، وهذا يتطلب جرأة حقيقية، وإلا فإننا نكرر ما فعله الآخرون الذين نتلذذ بوصمهم بتأليه الشخصية أو التنظيم! وثانيا: عليها أن تدرك أن لكل مرحلة أنشطتها النوعية المختلفة، والمرتبطة جميعها بمفتاح الحل وهو التلاحم مع الجماهير، والعمل على بناء الوعي الجمعي بالمطالب الأساسية للمرحلة؛ كمطلب إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية مثلا، فلا يمكن التوقف عند المصطلح من دون تقديم تفسير مفهوم لآلياته والتجارب السابقة سواء الناجحة أو التي فشلت، والتحول من مقاعد الصراخ والعويل إلى مقاعد تقديم البدائل الواقعية، وثالثا: عليها أن تحافظ على آليات الديمقراطية حتى وإن أتت الصناديق بما لا تريد، فالدول الديمقراطية لم تصبح هكذا بين عشية وضحاها، وإنما من خلال الاستمرار في حماية الديمقراطية وآلياتها ومؤسساتها وضمان نزاهة إجراءاتها حتى تسمح للجميع بالمشاركة وبالدوران في تولي السلطة. وأخيرا، عليها أن تقوم بعمليتين جراحيتين للجسد الثوري: أولهما شكر وفقط أشخاص لهم نضالهم وطريقتهم ولنا نضالنا وطريقتنا، وبالتالي العودة إلى مركز القيادة وليس الأتباع، والثانية عملية مرتبطة بـ«بقايا النظام» الذين التصقوا به ولا مناص من البتر!

* مديرة البرامج الثقافية في «مؤسسة مدى للدراسات» وباحثة دكتوراه في المعهد الألماني للدراسات الدولية - برلين