(يوم العمال العالمي).. لئلا يفاجأ العالم بما هو أسوأ من الشيوعية

TT

منذ أكثر من مائة عام: تعارفت البشرية على الاحتفاء بما عرف بـ(يوم العمال العالمي).. وهو عرف بشري محمود. فإن يتعارف الناس من كل جنس وبيئة ودين على هذا التقدير والاحتفاء في مطلع شهر مايو (أيار) من كل عام، فهذا في تقاليد البشر أمر حسن. ومهما تباينت طرائق الاحتفاء والتقدير، فإن المضمون المشترك هو: أن تُعرف للعمال حقوقهم، وأن ينصفوا ولا يُظلموا، ذلك أنه بـ(كدّ) العمال وكدحهم وعملهم: قامت الصناعات والزراعات وشتى المهن التي بنت الحضارة الإنسانية: القديمة والحديثة، ثم بسبب ظلم العمال وإهدار حقوقهم: قامت الثورات العنيفة، وفي طليعتها الثورة الشيوعية عام 1917.. ألم يختم انجلز وماركس بيانهما الشيوعي الأول بهذه الفقرة المحرضة للعمال على الثورة؟.. وهذه الفقرة هي: ((فلتفزع الطبقات الحاكمة أمام الشيوعية. وليس للطبقات العمالية شيء تخشى فقده سوى أصفادها، ولكن أمامها العالم كله ثمرة.. يمكن أن تظفر به.. فيا أيها العمال من جميع الأقطار والأمصار.. هيا إلى الاتحاد)).

فهل تجاوز العالم اليوم مثل هذه المخاطر، أو أنه قد فقد القدرة على الاعتبار بما جرى، ولذا يوشك أن يخوض مخاطر وأزمات جديدة – في هذا المجال - وإن في صور وأشكال مختلفة؟

منذ سنوات قريبة قال أحد مديري الاستخبارات الأميركية السابقين: ((إن المناخ أو المسرح العالمي الراهن يشبه في جوانب كثيرة الظروف التي سبقت الحرب العالمية الأولى)).. ومما لا ريب فيه أن (المعضلة العمالية) كانت (ظرفا) من تلك الظروف التي سبقت تلك الحرب. ومن هنا لم تكد تلك الحرب تنتهي حتى اندلعت الثورة البلشفية في روسيا.. وقد يرى أناس أن في هذه الكلمات نظرة تشاؤمية. وقد يرى آخرون فيها تصويرا موضوعيا للظروف والأحوال: أمس واليوم.. وأيا كان التقدير والتحليل فإن السؤال المركزي الذي يتوجب على الساسة والمفكرين أن يطرحوه على أنفسهم بوضوح وأمانة وبعد نظر هو: هل سيفاجأ عالمنا هذا من جديد بشيوعية جديدة، أو بما هو أسوأ من الشيوعية؟.. وهو سؤال مسبوق بسؤال أعمق وأبكر وهو: لماذا نشأت الشيوعية؟.. إن سقوط الشيوعية لا ينبغي أن يكون مجرد فرحة ساذجة، ولا أن يكون حجابا عن رؤية أسباب نشأتها.. فمن ناحية موضوعية: كان المناخ العالمي العام – ولا سيما في أوروبا - قد تهيأ لظهور أي حركة ترفع شعار النضال العالمي ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي. ولقد تمثلت الحركة المطلوبة – من حيث الحاجة - في الشيوعية التي لم تحسن – بطبيعتها - (تلبية) الحاجة القائمة، أي حاجة الأمم والمجتمعات إلى منقذ ينقذها من مخالب الرأسمالية الغبية الفاجرة المتوحشة، لم تحسن (التلبية) والاستجابة من حيث إنها حاربت (التطرف الرأسمالي) بتطرف آخر يوازيه في القدر ويضاده في الاتجاه. فقد حاربت الرأسمالية بإلغاء الملكية الفردية بإطلاق. وحاربت ديكتاتورية المال بديكتاتورية الطبقة العاملة. وحاربت استغلال الدين بالكفران به: جملة وتفصيلا.. نقرأ في التاريخ الأوروبي الذي تسبب في نشوء الشيوعية: ((إن عصر الثورة الصناعية كان من أشد مراحل التاريخ الأوروبي بشاعة، فحينما توحدت صفوف الإقطاعيين القدماء والرأسماليين الجدد: استطاعوا معا، وبما لدى الحكومات من وسائل عنف: تقويض القيم الاجتماعية القديمة العريقة، والقضاء على النظام الحِرَفي، وعلى الحقوق العُرفية التي كانت تضمن للعمال والفلاحين حدا أدنى من المعيشة المناسبة على الأقل.. حينما استطاعت هذه القوى – الإقطاع والرأسمالية - والحكومات العمياء إنجاز هذا السوء كله فإنها لم تتسبب في بؤس الملايين البشرية الكثيرة وشقائها فحسب، بل تسببت هذه القوى في اندلاع حركات مضادة ما كانت أممهم قادرة على التحكم فيها: حركات أدت قواها التدميرية إلى انهيار نظام التجارة الدولية الحرة الحديث العهد، وإلى حربين عالميتين، وإلى ارتقاء الشيوعية سدة الحكم في روسيا، وفي الشق الشرقي من أوروبا)).

إن الغذاء الأساس للشيوعية هو: استبداد الرأسمالية بحقوق العمال، وشيوع المظالم وتراكمها على نحو مرعب بوجه عام، كما تغذت الشيوعية (الأولى) أو استندت في نشوئها وسرعة تقدمها إلى (تعفن الضمير الديني).. يضم إلى ذلك: انسداد أفق الخيارات الأخرى مثل: تعقل الرأسمالية وإصلاح نفسها، ومثل تعافي الضمير الديني وتحرره من خطايا ممالأة الظلم والظالمين.. ونحن لسنا من البكائين على سقوط الشيوعية وتجربتها المركزية في الاتحاد السوفياتي. فكل نظام يحمل عوامل سقوطه داخل أحشائه لا بد أن يسقط مهما كان ضخم الحجم، صاخب الشعار، كثيف الدعاية، كثير الدراويش، بيد أن سقوط الاتحاد السوفياتي ارتبط بعاملين ينبغي التفطن لهما: العامل الأول هو (استنارة) المؤسسات الدينية في الغرب، بمعنى المصالحة مع العلم وإيلاء حقوق الإنسان وهمومه مزيدا من الاهتمام والعناية.. والعامل الثاني هو: ظهور رأسمالية (مهذبة) – إن جاز التعبير - تستجيب – نسبيا - للمطالب النقابية من أجور وخدمات وضمانات متنوعة.. ويلحظ أنه بسقوط الاتحاد السوفياتي تضاءل هذان العاملان وتراجعا، وهو تراجع يشبه – في بعض الوجوه - المناخ السابق الذي نشأت فيه الشيوعية.. ففي العالم اليوم ظواهر سيكون لها ما بعدها ما لم تعالج بعمق وجدية وشمول.. فثمة زيادات متصاعدة في معدلات البطالة في الدول المتقدمة صناعيا وفيما دونها من الدول. وهناك تدهور في مستويات المعيشة، وانخفاض في أجور الذين يحصلون على عمل. وهناك تقلص في الخدمات والضمانات الضرورية. وهناك ابتعاد من الحكومات عن التدخل (الضروري) في النشاط الاقتصادي الذي يحفظ التوازن.. ولقد رصد خبراء اقتصاديون غربيون هذه الظواهر ثم انتهوا إلى هذه النتيجة إذ قالوا: ((يتوقع المهيمنون على مصائر الاتحادات والمؤسسات الصناعية أن الوضع الحالي لن يستمر طويلا حتى نرى في الدول الصناعية أفرادا ينظفون الشوارع بالسخرة أو يعملون خدما للمنازل بقصد الحصول على ما يسد الرمق)).. أما العالم الخبير المختص بشؤون المستقبل جون نايزيت فيقول: ((إن عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه من مستوى معيشي مرتفع لجمهور المجتمع ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي))!!

وفي الأفق إحصاءات ومؤشرات مخيفة منها مثلا: أن عدد العاطلين عن العمل سيزيد عن عدد العاملين ((!!!!)) بل هناك دراسة تتوقع أن النموذج العالمي الاقتصادي الجديد يقوم على هذه المعادلة 20% يعملون. و80% عاطلون عن العمل (يوجد الآن 60 مليون عاطل في الوطن العربي وحده)، وأن 54% من الشباب العربي يطلبون الهجرة من أوطانهم!!

على أن ما يلزم دراسته والتحسب التخطيطي له هو ظاهرة لم تحدث من قبل، لا في تاريخ العمالة، ولا في مسيرة الصناعة: ظاهرة أن الجدارة العالمية للتكنولوجيا المتقدمة تسببت – كذلك - في تفاقم البطالة من خلال إعادة الهيكلة، والتخلص من الروتين والتضخم الوظيفي، وتقليص فرص العمل، وتسريح مئات الألوف من الأيدي العاملة.. ويمكن تبسيط الفقرة الآنفة بأنه يستحيل إيقاف (الترقي التقني) المتصاعد باطراد ولا لجم كفاءته المذهلة في الإنتاج.. في الوقت ذاته يتوجب الوعي بأن الترقي التقني المستمر سيؤدي إلى الاستغناء عن جماهير كثيفة من العمال العاديين.. فماذا فعلت الحكومات والشركات تجاه هذه المعضلة الحادة التي تهدد الاستقرار والأمن الوطني لكل بلد؟.. هل أخضعت هذه الظاهرة أو الأزمة العالمية الحادة لدراسة موسعة معمقة؟.. وهل انتهت هذه الدراسة إلى حلول واقعية ناجعة مثل أ- إعادة تأهيل العمالة من خلال تطوير مهارتها بسرعة وجودة عالية؟ ب- هل تم رسم استراتيجيات مستقبلة للتعامل الاستثماري مع الطاقة البشرية (الفائضة)؟

إن الترقيع لا ينفع، والتحايل قد يؤدي إلى ميلاد مشكلات جديدة.. مثلا: حاولت الصناعات الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية: أن تحتال على المطالب العمالية المتتابعة: بنقل صناعاتها إلى بلدان تكلفة العامل فيها أقل، إلا أن هذه الحيلة أنجبت مشكلة أخرى وهي ارتفاع معدلات البطالة في أميركا نفسها، وتزايد السخط في صفوف الطبقات العمالية هناك.. صحيح: أن الاختراق الأمني للاتحادات العالمية قد حد من الاضطراب والتظاهر، لكن هذا لا يلغي الغليان الذي سينفجر في يوم ما..