من فات قديمه تاه

TT

العنوان، قول مصري، راودني مع مراسم خطاب الملكة إليزابيث الثانية، الأربعاء، بمشاريع قوانين الدورة البرلمانية الختامية للحكومة البريطانية، وتعرف بافتتاح الدولة للبرلمان (state opening of parliament). فالبرلمان (بمجلسيه العموم واللوردات) مصدر التشريع، وأيضا الحكومة؛ فالوزراء جميعهم نواب برلمان، لضمان مساءلتهم أمام ممثلي الأمة، وأمام الناخبين، فالنائب (حتى رئيس الحكومة) له مكتب في الدائرة يقابل فيه الناخبين يومين أسبوعيا.

النظام البرلماني يفصل حكومة تتبدل بالانتخاب، عن الدولة الثابتة. الملكة، كرأس الدولة، فوق التيارات السياسية؛ والتاج رمز لتوحد الأمة بكل طوائفها وعرقياتها.

لعل القراء شاهدوا المراسم والاستعراضات الرسمية لوصول التاج والصولجان وسيف الدولة (بصحبة Lord Chamberlain كبير أمناء القصر) إلى البرلمان في عربة بالخيول، في حماية لواء الحرس الملكي الذي «يحتل» البرلمان رمزيا (تقليد يعود للقرن الـ17 زمن الصراع بين تشارلز الأول والبرلمان الذي تطور لحرب أهلية، ليكون عبرة لتجنب تكرارها). المراسم ينظمها اللورد المارشال (وهو دوق نورفولك لخمسمائة عام، والمنصب وراثي يتقلده الابن الأكبر عند وفاة الدوق)، وتتم بدقة الساعة السويسرية، ولأول مرة في 60 دورة برلمانية منذ توليها العرش وصلت الملكة دقيقتين مبكرا، فاضطر كبير حراس اللوردات (Black Rod) حامل العصا السوداء، للانتظار دقيقتين، قبل بدء مراسم دق باب قاعة مجلس العموم الذي يغلق في وجهه تكرارا لحادثة إرسال الملك العصا السوداء في القرن الـ17 ليقبض على نواب متمردين.

التقليد رمز التوازن بين التاج ونواب الشعب. وعند فتح الباب يبلغ صاحب العصا السوداء النواب «التاج يستدعي المجلس الشريف إلى الحضرة الملكية في مجلس اللوردات»، فيتبعه رئيس المجلس ووراءه رئيس الحكومة وزعيم المعارضة والنواب إلى مجلس اللوردات.

وطوال 500 عام لم تتغير التقاليد والمراسم، ولا حتى الملابس. كبير لوردات العدالة (الترجمة الوظيفية لـLord Chancellor، أعلى منصب يربط الدولة بالحكومة وأقدم من منصب رئيس الوزراء بـ400 عام، وهو حامل الأختام الملكية والمسؤول عن مجلس الشيوخ ورئيس السلك القضائي) يتسلم «عريضة» خطاب العرش ملفوفة، ليضعها في كيس مطرز صنع في القرن الـ16 ليسلمه للملكة. الخطاب يصوغه رئيس الحكومة والوزراء، بعد التشاور مع القصر. وحتى في القرن الـ21 خطاب العرش لا يزال ينسخه خطاط أول الدولة بريشة طاووس بالحبر الأسود على لفافة من جلد الماعز، ويجف الحبر في ثلاثة أيام في قبو محصن في مجلس اللوردات بحراسة العصا السوداء.

لا يكتسب خطاب العرش صفة «مسودة قوانين للمناقشة البرلمانية» إلا بعد أن تلقيه الملكة على اللوردات.

مكتب رئيس الوزراء (الحكومة) يرسل لنا (الصحافيين) نص الخطاب مسبقا باتفاق جنتلمان ألا ننشر نصه؛ فقط ننشر مقالات تحليلية استباقية عن اتجاهات سياسة الحكومة في الدقيقة الأولى بعد منتصف الليل من يوم الافتتاح البرلماني.

تقاليد سير الموكب، والإعلام (فور أن تخطو الملكة أرض البرلمان ينزل علم الاتحاد وترتفع الراية الملكيةRoyal Standard فوقه، ونفيري الوصول والمغادرة، لم تتغير لمئات السنين، وكذلك الأزياء وأماكن الجلوس. مراسم بقدسية شعائر المعابد، ليست مدونة وإنما محفوظة عن ظهر قلب. التقاليد هي حجر الأساس في استقرار بريطانيا وقدرتها على اجتياز المصاعب والأزمات، مثل الحرب العالمية الثانية عندما فقد الجيش البريطاني كل معداته وانسحب في قوارب الصيد من دنكرك، ثم تمكنت بريطانيا بزعامة السير ونستون تشرشل من أن تنتصر للإنسانية على النازية.

التقاليد الرسمية تعني الثبات والاستمرارية التي تمكن الأمم العظيمة من التغلب على المحن. ولذا أضيف «غياب استمرارية التقاليد الرسمية» للأسباب التي سقتها في المقالين السابقين كمعوقات لوصول بلدان انتفاضات 2011 إلى بر الحد الأدنى من الديمقراطية التي حلم بها مفجرو الثورات.

قارن استمرارية التقاليد البريطانية بالجدل غير المنطقي العام الماضي حول أين يؤدي الرئيس المنتخب قسم تولي رئاسة مصر، أقدم دولة، ليس فقط في المنطقة بل في العالم أجمع. أو قارن مدى تقديس البريطانيين واحترامهم لمراسم افتتاح البرلمان وحراسة الجيش لموكب التاج والصولجان والسيف، بوقوف مسؤولين في مؤسسة رئيس الدولة المصرية متفرجين على مظاهرة غوغائية لجماعته حاصرت قضاة المحكمة الدستورية مهدرة هيبتها كرمز حماية روح الأمة وكرامة الدولة.

لاحظ أن البلدان التي اندلعت فيها الانتفاضات وانهار اقتصادها وتعمها الفوضى هي «الجمهوريات» التي ابتليت بالانقلاب العسكري، بينما الأنظمة الملكية التي تحتفظ بتقاليد مراسم الدولة وبروتوكولاتها نجت من الفوضى والخراب الاقتصادي والانفلات الأمني.

ولاحظ مواكبة تحسن مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي وحرية الصحافة في الفترة البرلمانية الدستورية التعددية في مصر (1922 - 1952) لتقاليد المراسم والاحتفالات الملكية التي بدأت في عهد إبراهيم باشا في القرن الـ19 (بلغت نضجها وترسخت في عهد الخديو إسماعيل)، وموازاتها للتحديث السياسي بتحديد ملامح علاقة الدولة - التي يرأسها حامل التاج دستوريا - بالحكومة المتغيرة بالانتخاب، ولاحظ الانهيار والتحلل مع إهمال التقاليد، بداية بإلغاء اسم مصر ما بين 1958 - 1972 (وضرورة استعادة اسم «مصر» قبل خوض حرب 1973 لإصلاح هزيمة الجمهورية العربية المتحدة 1967).

بلا ترسيخ تقاليد مراسم دولة ثابتة ستظل الفوضى مستمرة.