ثمار ناضجة على الأشجار ونفوس معطوبة في الحقل

TT

الخبر نشرته جريدة «الأهرام» شبه الرسمية (الأحد 5 مايو/ أيار 2013) تحت عنوان «50 ألف عامل أجنبي يخترقون المزارع المصرية»، ثم عناوين فرعية منها «90% من العمالة الأجنبية تفتقد الخبرة وأهم ميزاتها الطاعة والإنجاز في العمل»، وفي تفاصيل الخبر «وتلجأ العديد من الشركات الزراعية حاليا إلى العمالة الأجنبية التي ينتمي منها 80% إلى دول بنغلاديش والصين وإثيوبيا بسبب قلة رواتبها (ألف جنيه في الشهر) بخلاف إقامتها الدائمة بالمزرعة إلى جانب تفانيها الشديد في العمل، حيث تماثل إنتاجيتها 3 أضعاف إنتاجية العمالة المصرية. ويتركز عمل الأجانب في مصر بمحطات التصدير على عمليات الفرز والجودة والتعبئة، إلى جانب الحاجة إليهم في مواسم الثمار التي تحتاج إلى دقة متناهية للحفاظ على الثمار». انتهى الخبر.

هناك مستويات عدّة لقراءة هذا الخبر؛ المستوى الأول هو قراءة الصباح السريعة، وهي وافية على كل حال، أما المستوى الثاني والأكثر أهمية، فهو قراءة تحليلية لمفردات الخبر للتعرف على آليات التفكير عند كاتبه بوصفه معبرا عما هو شائع في سوق الأفكار المصرية هذه الأيام. ولعل أول كلمة سنتوقف عندها هي كلمة «يخترقون»، في وصفه للعمالة الأجنبية؛ هم لا يعملون في هذه المزارع، بل يخترقونها، هذا هو بالضبط ما نراه جميعا في أي أجنبي نحن في حاجة إليه، لم يأتِ ليعمل عندنا، أو ليساعدنا في أمر من الأمور، بل أتى لاختراقنا. لقد اكتفى الخبر بذكر الاختراق وترك لقرائه استنتاج الباقي، في أقل القليل، هؤلاء الغزاة الأجانب المخترقون، سيتعرفون على أهم أسرار الفاكهة المصرية وبقية أنواع الخضراوات المصدرة. غير أن كاتب الخبر على الرغم من حرصه على إرضاء العواطف السائدة المعادية لشركات القطاع الخاص واقتصاد السوق بوجه عام، فإن مهنيته ورغبته في الإنصاف يبدو أنهما تغلبتا عليه؛ فقد بدأ بوصفه للعمالة الأجنبية بأنها تفتقد الخبرة، غير أنه أردف على الفور بأن من أهم ميزاتها «الطاعة والإنجاز». الواقع أن كلمة الطاعة خارجة عن قاموس العمل، هناك فقط الالتزام بقواعد العمل، المهم هو الكلمة الثانية، وهي الإنجاز، هؤلاء عمال جاءوا من على بعد آلاف الأميال إلى الحقول المصرية ليقوموا بالعمل الذي فشلت فيه العمالة الزراعية المصرية.. جاءوا بأديانهم السماوية والأرضية لنتعلم منهم «تفانيهم الشديد في العمل»، فلا نامت أعين العاجزين عن رؤية ذلك.

جني الثمار كان أولى مراحل تطور الإنسان الأول، وأنا أومن بما قاله الأستاذ «يونغ» من أن الجماعة الإنسانية لها «لاوعي جمعي» مسجل عليه كل ما مر بالإنسان من مراحل، وكل مرحلة تختفي في أعماقه، غير أنها تظل موجودة تتحكم في سلوكه طول الوقت. أنا أريدك أن تفكر في مهنتك، وفي كل المهن الأخرى؛ أليست هي بالضبط ما ذكره الخبر، وهي «الفرز والجودة والتعبئة»؛ أليس هذا بالضبط ما نفعله أو يجب أن نفعله جميعا؟ كل منا في كل مهنة وأي مهنة يلتقط الثمار من خارجه أو من داخله ويقوم بفرزها ويتأكد من جودتها، ثم يقوم بتقديمها إلى الآخرين. هذا هو ما يجعل الخبر مخيفا بالنسبة لي مع أني أتمتع بقدر من البلادة لا بأس به. هو خبر يتعدى الحقول والثمار والتصدير والعمالة، ويشير في رمزية واضحة إلى حقيقة فكرة العمل بوجه عام عند المصريين في هذه المرحلة من التاريخ على الأقل.

التفاني، القدرة على الفرز بما تتطلبه من عقلية نقدية في أبسط الحدود، ثم إدراك الجودة التي تتطلب إحساسا بالجمال، كل هذه العناصر هي ما نفتقر إليه الآن، وهو ما ألجأنا للاستعانة بهؤلاء العمال «عديمي الخبرة» عديمي الخبرة بماذا؟ بالبلطجة.. بتعطيل مصالحهم ومصالح الناس؟ بعشق البطالة والتنطع؟ بالصياح بالكلمات التي لا معنى لها؟

كل أنواع الأفكار الغبية لا تشعرني بالخوف، فالواقع قادر دائما على دفع الناس للتفكير في ما هو صحيح بعد اكتشاف ما هو خاطئ، أما ما أشعر بالخوف منه والعجز عن التعامل معه فهو العطب النفسي، ذلك العوار الذي يصيب الإنسان في أعمق أعماقه فيفقده عاطفة اعتبار الذات واحترام النفس، عندها تتحول الحياة إلى عبء عليه، ويتحول هو إلى عبء على الآخرين. اقرأ الخبر مرة أخرى، وحاول التعرف على رمزيته، ستكتشف بسهولة أنه لا يتكلم فقط عن الحقول والثمار والتصدير، بل يتكلم عن باقي أنواع النشاط على أرض الوادي، الفرز.. الجودة.. التعبئة. الفرز بمعناه الكبير هو القدرة على معرفة الفرق بين الوزير والخفير والمدير ورئيس التحرير، والتعرف على ما هو جيد يحتم أن تعرف ما هو الرديء، أما التعبئة فهي الكيفية التي ستقوم فيها بتصدير قرارك أو فعلك إلى الآخرين، داخل البلاد أو خارجها، بحيث لا يردون لك سلعتك، أو لا يأخذونك على محمل الجد.

وإذا كنت أكتفي بتشخيص المرض، فأرجوك لا تتصور للحظة أنني خبير بالعلاج المطلوب، هذا أمر يفوق قدراتي كفرد أو ككاتب. غير أني كأي مواطن وكل مواطن أستطيع أن أقول لك: «السلّم يكنس من أعلى»، بمعنى أدق: يتم تنظيفه من أعلى. لا بد من صفوة مثقفة ربما نصل إليها أو تصل إلينا بالصدفة، تحارب من أجل الأفكار الصحيحة. صفوة لا تعمل على كسب عواطف الشارع على حساب الحقيقة، صفوة تقول للناس: أيها السادة يا من تصلّون وتصومون من أجل أن نتمكن من تصدير سلعة ما، نصارحكم بأنكم عاجزون عن العمل بما يرضي الله، أنتم تطلبون حدا أدنى للأجور، ولا تفكرون في تقديم حد أدنى للعمل. أيها السادة، أنتم تكرهون العمل، ولا تشعرون بالغيرة من كل سكان الأرض الذين يعملون ليل نهار، وتطلبون الحرية بغير أن يعرف أحد ماذا تنوون أن تفعلوا بها.. غيركم يحب الحرية وعلى استعداد لأن يموت دفاعا عنها، ولكنكم تحاربون من أجل الحصول على علاوة مقابل عمل لا تقومون به على الوجه الأكمل أو الأنقص، وحتى عندما تحصلون على علاوة كل شهر، فستكتشفون بعد قليل أنكم في حاجة إلى علاوة في كل يوم، لأنكم لا تقدمون مقابلا لأي علاوة، ولأن كل علاوة سترفع الأسعار تلقائيا في غياب إنتاج حقيقي.. وأنتم تطالبون بمحاسبة كل إنسان على جرائمه أو ما ترون أنها جرائمه، ولكن لا أحد فيكم سمعنا صوته يطالب بمحاسبة أحد بتهمة الكذب، لذلك يكذب السياسيون عليكم في كل لحظة، لأنهم على يقين من أن الكذب ليس مؤثما عندكم.. أيها السادة، الثمار ناضجة فوق الأشجار في طول مصر وعرضها، ولكنكم عاجزون عن قطفها، لأن ذلك يكلفكم جهدا أنتم لستم على استعداد لبذله.. حاسبكم الله على ما تفعلونه بمصر وبأنفسكم.