قبل الكلام: المخدة على الهاتف

TT

«حوار مع الفكر الغربي» (دار نلسن - بيروت) مجموعة لقاءات أجراها الدكتور جوزف صايغ مع عدد من كبار المفكرين والمستشرقين الفرنسيين ما بين 1975 و1980. أعيد طبعها الآن، لأنها غير خاضعة للزمنية، وتبدو في مجملها مثل مرجع ثقافي معمق، يشمل مرحلة شغف ثقافي عميق.

من بين 39 مفكرا أو شاعرا أو روائيا فرنسيا، هناك مقابلة واحدة مع روسي، أستاذ في السوربون، هو الشاعر إفيم اتكين. تحدث اتكين عن النشر والثقافة في ظل السوفيات. الخلاصة: هناك ثلاث عشرة لجنة للمراقبة قبل صدور أي كتاب، آخرها الشرطة السياسية. أما الرقيب الأسوأ، فهو الكاتب نفسه. خوف الكاتب لا حدود له ولا ضوابط. لذلك لم يكن س. غلينكا، أشهر مراقبي القرن التاسع عشر، يقرأ المخطوطات. كان يوقع كل شيء ويقول: «مستعد لتوقيع ماعون ورق أبيض، ثم اكتبوا ما يطيب لكم، فأنا واثق بأن ما مِن كاتب سيخيب ظني»!

كان الكتاب رائجا جدا في الاتحاد السوفياتي، لأن لا شيء سواه. الصحيفة الروسية تُقرأ في ثلاث دقائق. «البرافدا» كانت كناية عن أربع صفحات خالية من الأخبار. وكان في موسكو نحو 30 صحيفة تنشر النصوص ذاتها وتكاد عناوينها لا تتغير. كانت لدى السوفيات قناعة بأن التنوع يدعو إلى التفكير والتساؤل. «الاختيار قلق» يقول المثل الألماني. وموسكو كانت تريد الراحة لأهلها.

في الستينات جاء إلى بيروت والقاهرة الشاعر يفتو شنكو وسحرنا بإلقائه. لكن اتكين لا يكن له إعجابا شديدا: «لم يكن شاعرا مهما. إنه شاعر خطابي. في البداية طرح مواضيع تحررية، لأنه جاء في زمن نيكيتا خروشوف، أول من انتفض على الستالينية. لكنه لم يكن أكثر من ذلك».

يسأله جوزف صايغ عن الحرية في روسيا آنذاك؟ «حر؟ حر كلمة كبرى. إذا أردت أن تكون أقل من ذلك بكثير يصعب عليك. لا يوجد أناس أحرار في الاتحاد السوفياتي. في روسيا، ما كنت لأستطيع، مثلا، أن أتحدث إليك كما أفعل الآن، مع أني كنت أستميح لنفسي استقبال الأجانب في منزلي. أول ما تلاحظه عندما تزور أحد المفكرين الروس، هو أن الحديث يبدأ دائما بوضع وسادة فوق الهاتف. ثم هم لا يلفظون الأسماء الواردة في الحديث بل يكتبونها على ورقة خوفا من الميكروفون أو الهاتف أو التلفزيون. ولو أنك زرتني في لينينغراد لكنا تحدثنا في الحديقة، لا في المنزل».

كان اتكين صديقا لسلجنتسين. وذات يوم اتهم بأنه خبأ في منزله مخطوطة كتابه «خليج الكولاغ». وفي يوم واحد انتُهبت: «طُردت من التدريس في الجامعة وألغيت تعويضاتي وطُردت من اتحاد الكتاب وجُردت من لقبي ومن شهاداتي وتم تحويلي إلى لا شيء».