شهادة الموت وآلام الثكالى!

TT

في موسم الثورات ازدهرت مفردة الشهيد التي لم نكن نسمعها يوما إلا لضحايا فلسطين، لقد انتعشت مفردة الشهادة التي ضعف تداولها منذ فترة طويلة. الشهادة التي ارتبطت في تاريخنا بالجهاد الديني ووصلت في مرحلة ما لمعنى التضحية من أجل مبدأ أو اعتقاد، هي مفردة لها في النفس العربية وقع حالم ولذيذ يشبه النهاية البطولية لحياة الإنسان.

فكرة الموت لأجل معنى يؤمن به الإنسان لا تنتمي لديانة أو مجتمع دون آخر، لكن فكرة الشهادة في مختلف الثقافات قد ضعفت حد التلاشي مع نضج المفهوم الإنساني في المجتمعات المدنية.

اليوم لم يعد مقبولا أن يعتبر الموت حالة جمالية لأي سبب كان، ولا لأي قيمة مهما كان سموها. الشهادة ترتبط بالموت، ولا شيء أكثر قيمة من الحياة، الموت لا يعادل إلا الموت، فلا الدين ولا المعتقد ولا حتى مبادئ الحرية والعدالة والمساواة كمفاهيم مدنية، يمكن أن تجمل أو تغير من معنى نهاية حياة الإنسان، لكن التوقيت العربي اليوم ما زال يتداول مفردة الشهادة، وما زالت بعض خطابات الإصلاح السياسي تستخدمها وتسعى لاستثمارها من أجل تحقيق أهدافها، ولا أقول مبادئها.

معنى الشهادة على المستوى الشعبي لا يشكل أكثر من تطمين لقلوب الأمهات الثكالى وسلوى لأحزان الفقد، لكن مفردة الشهادة التي تتداولها وسائل الإعلام عموما، ويرفعها الشعاراتيون في سبيل الإصلاحات السياسية بشكل خاص، لا تطمئن قلب أحد، بل تؤجج انفعالات الشعوب، وتجيش الحماسة الشبابية في أشد لحظاتها.

دعوات الإصلاح السياسي التي توظف الانفعال العام والجماهيري غير المسيس في الاتجاه الذي تريد. إنها تستغل لحظة انفعال الإنسان لتسهل له فكرة الموت في لحظة ضعف انفعالي يفقد فيها العقل خياره. الأطماع السياسية وزعت الشهادة على الموت العربي منذ 2011 وحتى اليوم كما لو كانت توزع شهادات تقدير مدرسية، ولهذا تفاوت مستوى التوزيع من ثورة لأخرى، ولهذا أيضا رجل الأمن الذي يجاهد ضد إرهابيي وطنه لا يموت شهيدا بتقييم الإصلاحيين، بينما يفوز الثائر إذا مات بكل الشهادات. سقط وما زال آلاف القتلى من الشعب العربي اليوم، فهل نختلف على تسميتهم ضحايا، قتلى أم شهداء، ليس من المقبول أن نجمل قتلهم بأبشع الطرق بأنهم مجرد شهداء خرجوا في سبيل حريتهم، هل خرج جميع الأطفال والشيوخ والنساء من بيوتهم أم هدت البيوت على رؤوس بعضهم؟ وهل خروج النساء والرجال للمظاهرات مبرر سام وكاف لنعتبره موتا اختياريا وجميلا فنصف موتهم بالشهادة؟ أم يجب أن نصر على أنهم مجرد ضحايا وقتلى للفوضى والعنف؟

السؤال مثلا يدور حول الذين سقطوا ولا يزالون في الشارع المصري، الشارع الذي كانت تخشى فيه المرأة على حقيبة يدها من السرقة وأصبحت تخشى فيه اليوم على جسدها من الاعتداء وحتى القتل. الموت عن طريق الخطأ يسقط الضحايا، والموت بأدوات قاتلة أيضا يسقط ضحايا وقتلى فقط بلا مزايدة.

الإنسانية اليوم لم تعد تعرف معنى للموت غير الموت، والذين يتوفون حرقا أو بسبب أعمال عنف أو نتيجة أخطاء طبية ليسوا إلا ضحايا فقط، الإنسانية لا تدخل في تدبيج الموت أو تجميله، ولا تنشغل عن حق الضحية بمعاني الشهادة وتبرير خسارة الإنسان حياته بأنه مات مقتولا لا قاتلا، ولو كنا نعيش في مجتمعات مدنية حقا لما قبلنا أن نسمي الآلاف من ضحايا الثورات والحروب شهداء، فجميعهم لم يختر الموت، ونصفهم لم يختر المعركة، ولا أحد منهم سيختار الموت شهيدا على أن يحتفظ بحياته.

الشهادة مفردة حالمة تتصور الموت قيمة عالية لأجل تحقيق أهداف، أو لأجل الانتصار للمبادئ، بينما لو كانت حياة الإنسان العربي لها قيمة الحياة الحقيقية لما استرخصنا إنهاءها لأي سبب كان، ولا قبلنا أن يزايد على الضحايا بأوصاف تصرفنا عن حقيقة الموت المخيفة التي لا يصح بعدها أي معنى لا للحرية ولا للكرامة ولا للحق.

وبينما يتنافس دعاة الإصلاح السياسي بين بعضهم على تقييم درجات الموت اليوم، وإصدار الرخص للشباب من معركة لأخرى، هنالك أمهات يذقن من الوجع ما لا يوازيه ولا يواسيه أي عزاء يقدمه هؤلاء الدعاة لهم.

من يمسح على قلب الأم بأن حرمانها من ابنها، وحرمان ابنها من الحياة، كان مستحقا مقابل أن تحقق هذه الدعوات مبتغاها وتصل لأهدافها السلطوية؟ من يجرؤ أن يصرخ في مسامع الأمهات بأن موت أبنائهن رخيص جدا مقابل عناوين الديمقراطية؟ من يجرؤ أن يخبر هؤلاء المكلومات في أعز ما يملكن، أن ورقة الانتخاب التي أصبحت اليوم في يدها تساوي ورقة شهادة الوفاة لابنها الذي نزل الشارع بنداء من المصلح والمرشد فقتل، وابنها الآخر الذي استجاب لدموعها فلم ينزل لكنه أيضا ذهب ضحية رصاصة طائشة؟!