هنا تركيا.. ماذا جرى؟

TT

هنا بلاد تولد ودولة تدفن، للذين يفضلون العنوان على قراءة النص هذا يفي بالغرض. هذه مقالة كتبت من تركيا بعد لقاءات عدة مع مسؤوليها وخبرائها والمهتمين بتجربتها، حيث دعيت رفقة تسعة صحافيين عرب للاطلاع على تجربة تركيا في كل المجالات: السياسية والاقتصادية والثقافية والدبلوماسية... ولاكتشاف حجم التغيير الذي تعيشه هذه البلاد التي يعرفها المواطن العادي من خلال المسلسلات المثيرة، والرحلات السياحية التي أصبحت قبلة الطبقات الوسطى في عدد من الدول العربية، التي يحس الكثيرون بأن بها شيئا يتحرك، ما هو؟ وكيف حصل؟ هنا نحاول الاقتراب من هذا الجواب.

قصة النجاح التركية عمرها عشر سنوات لا أكثر، وخلال هذه المدة القصيرة في حياة الدول نجح حزب العدالة والتنمية، بزعامة رجب طيب أردوغان، في وضع تركيا في مصاف الدول السائرة في طريق التقدم، وإليكم عددا من المؤشرات على هذا التقدم، وعلى القطيعة التي وقعت في سياسة هذه البلاد التي كانت فيما مضى إمبراطورية تحكم جغرافيا لا تغيب عنها الشمس، قبل أن تمرض وتقترب من الموت قبل قرن من الزمن.

انتقل معدل دخل الفرد السنوي في تركيا من ثلاثة آلاف دولار قبل عشر سنوات، إلى 11 ألف دولار اليوم. هذا معناه أن مستوى عيش الناس تحسن بأكثر من ثلاث مرات في ظرف عقد من الزمن. «دخل أكبر يعني مشاكل أقل»، يقول أحد المسؤولين الكبار هنا في أنقرة. الناتج الداخلي القومي انتقل من 200 مليار دولار في السنة قبل عشر سنوات إلى 900 مليار دولار في السنة، اقتصاد البلاد كان فلاحيا فصار صناعيا وخدماتيا. السياح الذين لم يكن عددهم يتجاوز الأربعة ملايين صاروا اليوم يقتربون من 35 مليون سائح، نسبة مهمة منهم عرب ومسلمون. البلاد التي كانت مدينة للبنك الدولي بـ23 مليار دولار صارت اليوم بلا ديون تقريبا، وأضحت تساعد الدول الفقيرة بنحو 3.5 مليون دولار كل سنة.

الجيش التركي الذي كان، لمدة 80 سنة، يتحكم في كل مفاصل الدولة، رجع إلى ثكناته، وهو الآن خارج المعادلات السياسية والاقتصادية، وأصبح دوره ينصب على حماية الدولة خارج الحدود، وترك السياسة للسياسيين والأحزاب وصناديق الاقتراع. الشيء نفسه يمكن قوله عن المحكمة العليا التي كانت مسيسة وتابعة للجيش، الذي كان ينصب نفسه وصيا على العلمانية والإرث الأتاتوركي، هذه المحكمة التي منعت الأحزاب الإسلامية مرارا، ومنعت أردوغان نفسه من الترشح للانتخابات في 1998 بتهمة التحريض على الكراهية، أصبحت خارج المعادلة السياسية.

نجح الانتقال الديمقراطي في البلاد بشكل ملموس، وشهدت تركيا ثلاث ولايات برلمانية، وأكثر من تعديل دستوري دون مشاكل كبيرة، وحتى محاولات الانقلاب التي كانت بعض أجنحة الجيش تنوي القيام بها فشلت، وحوكم الواقفون خلفها، وذلك دون تدخل من قيادة الجيش ولا من الشارع. والآن البلاد على وشك إجراء تعديل دستوري جديد لتغيير شكل النظام، والتوجه إلى نظام رئاسي على الطريقة الأميركية، مع الانتقال إلى نظام برلماني يضمن تمثيل الأقليات الكردية والعلوية والمسيحية والأرمينية وغيرها، التي كانت تذوب في النظام الانتخابي الأغلبي الحالي.

دبلوماسيا، تجني تركيا الآن ثمار نجاحها السياسي، حيث إنها صارت عضوا كامل العضوية في نادي الدول الديمقراطية، نعم ما زالت فيها مشاكل وصعوبات وتجاوزات ترصدها المنظمات الحقوقية الداخلية والخارجية، لكن انتخاباتها نظيفة، وحرية الرأي والتعبير فيها مكفولة، والمؤسسات تسير على سكة المشروعية، أو كما يقول المثل التركي: «مشاكل القافلة تحل أثناء الطريق»، وتركيا اليوم تسير نحو الانفتاح على العالم العربي، وتشجيع دول الربيع فيه على الانتقال، وبسرعة، إلى دولة المؤسسات، وهذا ما يفسر موقفها من سوريا الآن، ومعارضتها الشرسة لاستمرار الأسد في قتل شعبه. نعم لتركيا مصالح في هذا العالم العربي، الذي يبدو تائها بلا بوصلة ولا خارطة طريق، لكن منظر الدبلوماسية التركية، داود أوغلو، يقول اليوم: «إن تركيا تقود دبلوماسية إنسانية تتعايش تحت سقفها الأخلاق والمصالح، وإن التعارض ليس حتميا بينهما».

25 في المائة من تجارة تركيا اليوم مع العالم العربي، وقد ازدادت بـ60 في المائة عما كانت عليه قبل سنوات قليلة. ليس هذا فقط، واردات تركيا من البلاد العربية جلها مواد خام، في حين أن أغلب صادراتها إلى هذه الدول مواد مصنعة، أي تجارة وقيمة مضافة، صناعة وابتكار، رقم معاملات وهامش ربح كبير.

قبل مجيء أردوغان إلى الحكم في تركيا كان الرجل المريض في الشرق يعاني ثلاث مشكلات كبرى: استبداد عسكري كان يضع على عينيه نظارات أمنية، وبها يرى كل شيء يتحرك، وفساد كبير استشرى في الدولة ومنع النمو من الحركة، والاقتصاد من الازدهار، ثم حرب مفتوحة مع الأكراد الذين كانوا يحلمون بالانفصال عن الدولة القومية المتصلبة التي قمعتهم، وهمشت لغتهم، وطردت هويتهم من المجال التركي العام.

الآن الجيش عاد إلى ثكناته، ولم يعد يلبس سوى قبعة واحدة هي قبعة الدفاع عن حدود البلاد، بعد معركة لم تكن سهلة خاضها أردوغان تحت أكثر من عنوان، لعل أهمها: الاستعداد لدخول الاتحاد الأوروبي وشروط هذا الأخير الديمقراطية والاقتصاد المعافى.

أما الفساد فقد تراجع إلى حد كبير بفضل نجاعة السياسات الليبرالية التي أدخل عليها أردوغان مسحة اجتماعية وطابعا براغماتيا. لم يسجن نفسه في قوقعة آيديولوجية، تركيا اليوم أصبحت سابع اقتصاد في أوروبا، وأضحت ورشا مفتوحا، وشريكا اقتصاديا مهما للصين ولأوروبا وأميركا والبرازيل، ولعدد من الدول العربية (في مصر وحدها هناك اليوم أكثر من 400 شركة تركية جلها فتحت فروعا لها بعد الثورة وليس قبلها).

أما المشكلة الكردية التي كان الجيش يعتبرها قضيته الأولى، وباسمها كان يضع يده على المليارات من جيوب دافعي الضرائب، فإنها لم تحل كليا، لكنها أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه، حزب العمال الكردي (pkk) ألقى بالسلاح وبدأ الانسحاب من الأراضي التركية الأسبوع الماضي، وقائده الأسطوري عبد الله أوجلان أعلن من سجنه الانفرادي أن السياسة، وليس السلاح، هي أداة المرحلة للدفاع عن حقوق الأكراد، في بلاد سائرة في طريق التحول الديمقراطي، خاصة بعد الاعتراف بحقوق الأكراد اللغوية والثقافية، بعد أن كان حديث شخصين في الشارع باللغة الكردية يقود إلى السجن. والدولة الآن تحاور هذا الحزب وقائده أوجلان، الذي كانت الحكومة تسميه «قاتل الأطفال».. هذا صار من الماضي. ألم نقل إن الوطن الأكثر دخلا أقل مشاكل. «المال أساس كل شر» هكذا يقول الإنجيل، لكن الكاتب الإنجليزي العبقري برنارد شو قلب هذه الآية وجعلها تقول: «نقص المال أساس كل شر».