استراتيجية التوازن؟!

TT

في دروس الصف الأول في مدرسة العلاقات الدولية يقال إن الدول في سياستها الخارجية تتبع واحدة من ثلاث استراتيجيات عظمى: أولاها الاعتماد على الذات، فهي لا تحتاج لدول أخرى فيما يختص بالدفاع عن أمنها أو حاجاتها الأساسية، فهي تنتج سلاحها بنفسها، ولديها قدرة على الحركة باتساع الكون، ولديها من القدرة الإنتاجية ما يجعلها لا تحتاج لطرف أو أطراف أخرى، وإذا احتاجت لأسباب ما فإن لديها من المال والوسائل الاقتصادية لكي تحصل على ما تريد أو تنتزعه انتزاعا. وثانيتها السعي لخلق حالة من التوازن الإقليمي أو الدولي بحيث تلغي القوى القادرة الواحدة الأخرى، بل إنها سوف تتنافس لجذب القوى الأصغر إلى جانبها لكي يكون التوازن في صالحها مما يعطي لهذه القوى الصغرى بعضا من عناصر القوة لا توفرها بنفسها وإنما تأتي إليها نتيجة ظروف المنافسة السائدة. وثالثتها اللحاق بالقوة أو القوى الأقوى والأكثر تأثيرا في العالم والحصول على مزايا توفير الأمن بتكلفة أقل، والفوائد الاقتصادية العالية مقابل خدمات معقولة.

وكانت فكرة القومية العربية والوحدة العربية في جوهرها محاولة لاتباع الاستراتيجية الأولى على أساس أن الدول العربية مجتمعة يمكنها أن تحقق قوة دولية لديها من الموارد ما يسمح لها بالاعتماد على الذات. ولكن عندما ظهر أن هذا الهدف صعب التحقيق لأسباب ليس هنا مكان ذكرها فإن الاستراتيجيتين الثانية والثالثة صارتا هما المفضلتين لتشكيل السياسة الخارجية للدول العربية. وكانت الحرب الباردة - 1947 إلى 1989 - هي فترة الازدهار لاستراتيجية التوازن بين العملاقين السوفياتي والأميركي والتحالفات الملتفة حولهما. ووجد الكثير من الدول العربية الرئيسة أن اتباع سياسات من نوعية «الحياد الإيجابي» و«عدم الانحياز» وتنويع مصادر السلاح والاقتصاد وسيلة فعالة للحصول على مكانة دولية وتعظيم المصالح الخاصة بكل دولة. ولعب الصراع العربي الإسرائيلي دورا في هذه الاستراتيجية حيث كان التحالف الأميركي الغربي مع إسرائيل سببا في اللجوء إلى الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية لطلب السلاح والمصانع. وكان ذلك على العكس تماما من الاستراتيجيات التي اتبعتها دول مثل باكستان وكوريا الجنوبية وتركيا وكوبا وغيرها التي لم تلعب على حبال التوازن بين المعسكرين، وإنما اختارت اللحاق بأحد المعسكرين لكي تحقق مصالحها.

في الواقع العملي بالطبع فإن الدول لا تأخذ بأي من هذه الاستراتيجيات بصورة نقية وفي كل الأوقات، والمرجح أنها تستخدم خليطا منها تتراوح فيها الخلطة بين لحظة زمنية وأخرى. ولكن الدول العربية في العموم كانت تميل إلى عالم يكون فيه أكثر من كتلة، وأكثر من توازن، ويكون الانزعاج على آخره عندما تنفرد قوة واحدة بقيادة العالم كما جرى للولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي. وفي وقت من الأوقات جرت تمنيات كثيرة أن يقوم عالم خماسي الأضلاع يضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان والصين. عمليا لم يكن ذلك ممكنا وأوروبا واليابان جزء من التحالف الغربي الكبير في السلاح والاقتصاد والقيم الديمقراطية، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد روسيا ندا يذكر؛ أما الصين فلم تكن المسألة فقط أنها تعد نفسها من العالم الثالث، وإنما أيضا أنه لم يكن لديها سياسة كونية من نوع أو آخر. على أي الأحوال تعايش العرب مع الانفراد الأميركي بالعالم خاصة أن إعلانه جاء في عملية تحرير الكويت عام 1991، وبعدها في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي، وما تلا ذلك من الحرب العالمية ضد الإرهاب التي استهدفت دولا عربية بقدر ما استهدف الدول الغربية أيضا. ولكن عقدي اللحاق بالولايات المتحدة والغرب لم يكونا سببا للراحة العربية، وظل البحث جاريا عن عناصر للتوازن في الساحة العالمية، وعندما تغيرت الأحوال في دول عربية كثيرة في يناير 2011 أصبح البحث حثيثا عن طرف آخر في العلاقات الدولية يمكنه أن يشكل كتلة موازنة للتكتل الغربي. ويبدو أن كتلة «البريك» التي تضم البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والصين توافرت فيها مجموعة من المواصفات التي تجعلها تلائم الاستراتيجية المطلوبة، وتجعل الغرب ليس مطلق اليد في الساحة الدولية.

وربما كانت مصر التي نأت عن الأحلاف العسكرية أثناء الحرب الباردة، وكانت طرفا في سياسات الحياد الإيجابي متلهفة بعد تغييرات يناير للبحث عن هذا الطريق الجديد، ومن ثم كانت زيارات رئيس الجمهورية المصري د. محمد مرسي للصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا ومؤخرا البرازيل رسالة لمن يهمه الأمر أن مصر لم تعد أسيرة العلاقة مع معسكر واحد، بل إن هناك طرفا دوليا جديدا وقويا يعطيها قدرا غير قليل من حرية الحركة ومرونتها، كما أن لديه الكثير من الدروس التي يمكن الانتفاع بها خاصة في التنمية الاقتصادية. وعلى الرغم من أنه لا يزال مبكرا تقييم هذا التوجه من حيث تحقيق الأهداف المصرية، فإن هناك بعضا من الحدود الموضوعية التي لا بد من الإشارة إليها. أولها أن تكتل «البريك» ليس تحالفا عسكريا متجانسا في النظم السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية التي تميز التحالف الغربي. فالديمقراطية في البرازيل وجنوب أفريقيا لا تزال حديثة، وفي الهند عريقة، وفي روسيا تختلط بحكم دولة المخابرات القديمة والمافيا السياسية الحديثة، وهي غائبة في الصين التي يحكمها حزب شيوعي. ومن الناحية الاقتصادية البحتة، فرغم أن هذه الدول فيما عدا روسيا تعيش في ظل معدلات عالية من النمو، فإنها في الجانب المقابل يوجد بها معدلات عالية من الفقر. والصين فيها قرابة 700 مليون نسمة يعيشون دون حد الفقر، وهناك عدد قريب من هذا في الهند، أما في جنوب أفريقيا فأمامها طريق طويل حتى تقترب الثروة من السود كما اقتربت السلطة. وعلى الرغم من أن البرازيل حققت قفزات واسعة من حيث التنمية الاقتصادية فإنها تعد من أسوأ دول العالم توزيعا للثروة. ومن المدهش أنه وفق المعيار الخاص بتوزيع الثروة فإن الحال في مصر أفضل مما هي عليه من كل دول «البريك» خاصة البرازيل، فضلا عن أن متوسط دخل الإنسان المصري مقوما بالدولار هو أفضل من الصين والهند ونصف ذلك المتوافر في البرازيل. الأهم من ذلك كله أن هذه الدول فيما عدا روسيا ليس لديها سياسة شرق أوسطية نشطة، وهي حريصة على علاقاتها مع الولايات المتحدة أكثر بكثير مما يظن كثرة من العرب.