هل انتهاج أميركا سياسة اللاعنف أمر ممكن؟

TT

«لا ينحصر الاختيار بين العنف واللاعنف، وإنما بين اللاعنف واللاوجود». (مارتن لوثر كينغ)

لقد أدخلنا أنفسنا في حالة من العنف.

ربما نبدأ بطرح سؤال: من نحن الآن؟

من الواضح أننا دولة عنفية؛ فمعدل جرائم القتل لدينا يعادل 3 إلى 5 أمثال المعدل في معظم الدول الصناعية الأخرى. المذابح التي تقع هنا بشكل متكرر يكون متوقعا حدوثها، إن لم يكن توقيتها وموقعها متوقعين أيضا. علاوة على ذلك، فإن الأمر الأكثر دلالة هو أن رد فعلنا تجاه العنف يتمثل في المزيد من العنف. إننا نستعرض قوتنا (أو ما تبقى منها) بالخارج بهدف مخاطبة صور مدركة من الظلم أو تهديد لمصالحنا. إننا لم نخلص أنفسنا بعد من عقوبة الإعدام، وهي حقيقة تملأ هؤلاء الموجودين في الدول الأخرى بحالة من عدم الثقة. يصف كثير منا استجابة لحالة العنف المسلح الطائشة المحيطة بنا، المزيد من الأسلحة كحل، مثلما سعى الجمهوريون خلال الجدال حول الأسلحة. ونحن نعذب الناس. ومع ذلك، يبدو أنه في إطار اعتقادنا أن العالم يستجيب فقط للعنف، فإننا نكشف النقاب عن حقيقة أنفسنا بدرجة تفوق إماطتنا اللثام عن واقع العالم.

ما السبب في ذلك؟ ولماذا أضحت الولايات المتحدة منغمسة بشدة في المجازر؟

هناك بالقطع عدة أسباب، غير أن ثمة ثلاثة أسباب بارزة، أحدها متأصل ويعود إلى أمد بعيد، بينما تعتبر الأسباب الأخرى أكثر حداثة. يكمن السبب العميق في فرديتنا التنافسية. إن الأميركيين فخورون بفرديتنا، وفي حقيقة الأمر، ليست هذه برمتها نقمة. إن الاعتقاد بأن الشخص يتحمل مسؤولية نفسه بدلا من الاعتماد على الآخرين في كسب العيش والحصول على الدعم له مميزاته. مما لا شك فيه أن كثيرا من صور التقدم (العلمية والتكنولوجية والفنية) التي قد نشأت من الولايات المتحدة لها جذور في كفاح الأفراد الذين عزز إيمانهم بأنفسهم التزامهم تجاه عملهم وتفانيهم فيه.

ومع ذلك، فإن الجانب المظلم لمبدأ الفردية هو حذر الآخرين ورفض سمة التكافل الاجتماعي الموجودة في دول، مثل الدنمارك والسويد ونيوزيلندا، وعلى الأقل إلى حد ما، في فرنسا. ونحن نجلب الجانب السلبي لأنفسنا، إذا ما قمنا بهذا بالفعل، ولكننا نقوم به بمفردنا. إن مواطني دول جوارنا ليسوا رفاقا لنا بقدر كونهم منافسين لنا.

ويتمثل السبب الثاني في تراجع قدرتنا على السيطرة على مجريات الأحداث في العالم. ربما تعود بداية هذا التراجع إلى هزيمتنا العسكرية في فيتنام، أو، إذا فضلنا، بشكل أكثر حداثة، إلى هزيمتنا في العراق. في أي حدث، يبدو من الواضح أن الولايات المتحدة لا يمكنها فرض إرادتها، مثلما فعلت خلال معظم فترات القرن العشرين. إننا نعيش في عالم مختلف الآن، وهذا يجعل كثيرا منا يشعر بعدم الأمان. نحن نصبو إلى عالم أكثر تعاونا مع رغباتنا من العالم الذي نحيا فيه الآن. وشعورنا بعدم الأمان يعزز بالتبعية رغبتنا في فرض السيطرة، التي توطد بدورها فكرة العنف. إذا لم نستطع السيطرة على الأحداث في العالم، فينبغي أن لا يكون هذا ناجما عن عجزنا أو تعقيد مشكلات العالم، وإنما عن عدم استعدادنا لـ«التعامل مع الأمور بقدر أكبر من الشجاعة».

ومن ثم، نحكي لأنفسنا حكايات خيالية عما كان من الممكن أن يحدث، لو كنا قد أصررنا على الانتصار في فيتنام أو فجرنا دولة أو أخرى تعود إلى العصر الحجري.

السبب الثالث اقتصادي. لقد ظلت دولة الرفاهية في حالة انحدار على مدار أكثر من 30 عاما إلى الآن.

إن الفردية التنافسية وعدم الأمان والليبرالية الجديدة هو الثلاثي الذي يشكل أساس ولعنا بالعنف. وهذا، بقدر أي شيء آخر، هو الاستثناء الحالي لأميركا. لا تمثل دول أخرى شركاء أو حتى زملاء لنا. إنهم منافسونا أو أعداؤنا، ولا يتم الاعتراف بوجودهم تقريبا، فما بالك بتبني أسلوبهم؟! يكون هدفنا بالأساس هو هزيمتهم.

ما الذي سيبدو عليه البديل؛ اللاعنف؟ وما الذي يتطلبه منا؟

يتحتم علينا أن نفهم أولا أن اللاعنف ليس مرادفا للسلبية. بل هو نشاط إبداعي. يتم هذا النشاط في إطار حدود معينة، ولتوضيح النقطة ببساطة، تتمثل تلك الحدود في التعامل مع الآخرين بوصفهم رفاقا في الإنسانية، حتى وإن كانوا خصومنا. ولا يتطلب هذا الإدراك أن نرضخ لمطالب الآخرين، عندما لا نتفق معهم.

إنما يتطلب أن يكون الإجراء الذي نتخذه، حتى عندما يكره الآخر (مثلما يحدث في حالة المقاطعة والإضراب عن العمل والاعتصام والحواجز البشرية)، أن لا يسعى إلى تدمير إنسانيته. إنه يتطلب أن نعترف بالآخرين بوصفهم رفاقنا في الإنسانية، حتى في حالة كونهم على الجانب الآخر من الجسر.

هل بوسعنا القيام بهذا؟ هل نحن قادرون في اللحظة الراهنة على تبني عقلية اللاعنف؟

الأمثلة موجودة بالفعل في تاريخنا. ربما تكون حركة الحقوق المدنية هي أبرز مثال لسياسة اللاعنف في إرثنا البشري. عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، بعد إعصاري كاترينا وساندي، والآن، في إطار ردود الأفعال الفورية على الأرض تجاه تفجير بوسطن، تضافر الأميركيون مع هؤلاء الذين لم يكن يربطهم بهم سابق معرفة بهدف استعادة شبكة وجودنا المشترك. نحن نتسم بالعنف بالفعل، ولكننا قد أظهرنا لمحات من سياسة اللاعنف، بمعنى تلك اللحظات التي تفوق فيها وضوح تشابهنا مع الآخرين على فرديتنا التنافسية وشعورنا بعدم الأمان ورغبتنا في جني أكبر عائد من استثمارنا في الوقت والمال. هذه مجرد لحظات. فهي لم تستمر لفترة طويلة، لكنها تعلمنا أنه حينما يتعلق الأمر بالعلاقات السلمية مع الآخرين، لا نعاني من الحرمان بشكل كامل.

ما الذي قد تتطلبه تلك الدروس لتترسخ في روحنا الجمعية؟ ثمة قدر كبير من العمل ينبغي إنجازه. علينا أن نبدأ بالنظر إلى أشقائنا من بني البشر على ذلك النحو تحديدا؛ رفاق. ليس بالضرورة أن يكونوا أصدقاء، لكن ينبغي اعتبارهم جديرين باحترامنا، وحاملين للواء الكرامة. إن هؤلاء الذين يكافحون يجب أن لا يُنظر إليهم بعد ذلك بوصفهم فاشلين، ولكن في الأغلب الأعم بوصفهم تعساء الحظ، وربما يستحقون أن نمد لهم يد العون. وعلينا اعتبار هؤلاء الذين يفدون إلى أراضينا، بصرف النظر عن ماهية سياستنا تجاههم، بشرا يسعون للتمتع معا بحياة كريمة بدلا أن يكتفوا بكونهم مجرد عالة على الأثرياء في بلدنا. إن المرضى ينبغي أن ينظر إليهم بوصفهم أكثر من مجرد عناصر تستنزف ضرائبنا، وإنما كأقران ربما كنا في وضعهم.

* خدمة «نيويورك تايمز»