القضية المركزية

TT

سبل التعبئة النفسية ضرورية في حياة الأمم. أحيانا تشتد وتتحول إلى «بروباغندا» فيها الصحيح والخاطئ، وأحيانا تتحول إلى حالة هوس لا تعيش طويلا، ويكون سقوطها مأساويا على أصحابها وعلى ضحاياها. القضية الفلسطينية ظلت حية بسبب معانيها الإنسانية الكبرى. حركها في النفوس الشعراء والكتاب والأبطال والمظلومون. وقصر العرب أحيانا وبذلوا أحيانا كثيرة، وبصرف النظر عن تفاوت الصدق والحقيقة فقد جعلوها «القضية المركزية».

أفاق كل عربي على أن قضيته الأولى ليست الطرقات أو المستشفيات في بلده، وإنما هي قضية فلسطين. من لم يكن مقتنعا بذلك كان يخجل من المجاهرة. في الكويت وفي الرباط وفي الموصل، كان الشعور واحدا. وحدت فلسطين بين الناس أكثر مما وحدت بينهم اللغة. ورددوا الأناشيد الحماسية في صوت واحد في كل مكان. ثم أين هي القضية اليوم وفي أي «مركز» من القضايا الأخرى؟

هناك ظاهرة غريبة في شرق الظواهر هذا. وهي ليست في أن القضية غائبة، بل في أن أصحابها غائبون. يتخلف الفلسطينيون في الصفوف الخلفية، بينما تتقدم إيران وحزب الله. وعندما يتحدث فلسطيني باسم قضيته عليه أن يزن كلامه جيدا، خصوصا عندما يتحدث عن أرضه وشعبه وحقوقه. الصوت في رام الله غير مسموع، والصوت في غزة ليس سوى صدى، وكأن أهله صاروا الفرع في المسألة.

لقد دفعت الثورات بالقضية الفلسطينية من أولى الأولويات إلى المراتب المتأخرة. وبدا نزوح الفلسطيني من دمشق غير ملحوظ وسط عشرات الآلاف من جموع النازحين. وفي ميادين مصر، لم ترتفع يافطة واحدة تذكر أو تتذكر فلسطين. وما من أحد يعرف شيئا عن أوضاع الفلسطيني في «دولة القانون»، أو في ليبيا، حيث دفعهم القذافي إلى عراء الصحراء، وهو يتهم الآخرين بالعمالة.

مجرد مصطلح لفظي آخر دبجه العرب ونسوه. من أجل ذلك، قاتل ياسر عرفات في سبيل القرار الفلسطيني المستقل. شعر بأن الذين يحيطون به لهم في فلسطين غير مأرب، وأدرك أنهم قد يتخلون عنها في أي محطة على الطريق. ولو عاش إلى اليوم لاكتشف أنها لا تذكر حتى في الأدبيات ورفع العتب. لم تعد ثمة حاجة إليها في سوق المتاجرة. فقد حلت الممانعة كمصطلح جديد محل المصطلحات التي استهلكت.