استراتيجية بناء «الصحة العاطفية»

TT

الأشخاص الذين يتمتعون بـ«صحة عاطفية» Emotional Health سليمة، هم أقدر من غيرهم في ضبط عواطفهم والسيطرة عليها لجعل تصرفاتهم أكثر عقلانية وأجدى فائدة وأقرب لتحقيق أهدافهم. وبهذا فإنهم يتمكنون من تقوية مستوى مزاجهم العام، والتمتع بالواقعية، وبناء علاقات قوية مع الغير بالمواصفات التي يُريدونها، كما يتمكنون من القيام باستعادة التوازن بكفاءة أكبر وفي وقت أقصر حال مواجهة الإخفاقات أو الفشل في تحقيق مشاريع معينة.

وكما أن بناء «صحة بدنية» سليمة يتطلب جهدا في انتقاء أنواع الأطعمة الصحية وممارسة الرياضة البدنية وإجراء الفحوصات الدورية ومعالجة الأمراض التي قد يُصاب بها الجسم، فإن تكوين «صحة عاطفية» سليمة يتطلب وضع «استراتيجية عاطفية» Emotional Strategy تتكون من جهود مماثلة تُؤدي إلى تحقيق التمتع بتلك الحالة الصحية في العواطف.

دعونا نراجع حالة «القلق» anxiety كمثال على أحد جوانب الصحة العاطفية، فمعلوم أن اضطرابات القلق، هي إحدى المشاكل الصحية الرئيسية في كافة المجتمعات العالمية اليوم. وتشير الإحصائيات الصادرة عن المؤسسة القومية للصحة العقلية بالولايات المتحدة إلى أن نحو 20% من الأميركيين البالغين يُعانون من القلق الاجتماعي social anxiety أو القلق العام general anxiety بدرجة شديدة تتطلب التشخيص. وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن يكون القلق والاكتئاب في عام 2020 هما السبب الثاني للإعاقة عالميا بعد أمراض القلب، التي هي حاليا السبب الأول عالميا للإعاقة.

ورغم معرفتنا أن القلق ليس كله شر أو ضرر، ذلك أن درجة منخفضة من القلق هي أمر ضروري للنجاح في تحقيق الأهداف والغايات، إلاّ أن السؤال هو: ما مدى تأثير كل من التعبير عن المشاعر أو كبتها كعوامل مؤثرة في نشوء واستمر وتكرار حالة «القلق» بالدرجة المضرّة والمؤثرة سلبيا على حياتنا؟

وما تلاحظه نتائج الدراسات الطبية النفسية أن الأشخاص الذين يضعون الخطط المستقبلية لمجريات حياتهم ويضعون أيضا في اعتبارهم وتقديرهم كيفية التفاعل بإيجابية لتحديات المشكلات يجنون بالفعل فوائد ذلك المتمثلة في المعاناة بشكل أقل من الاضطرابات العاطفية، بخلاف منْ يُهملون أو يتجاهلون أو يكبتون مشاعرهم حال اعتراض المشكلات مسار حياتهم.

وحينما يُواجه أحدنا مشكلة أو صعوبة أو إخفاقا ما، ما الذي يفعله؟ هل يهرب من واقعه أو ينعزل على نفسه أو يتظاهر بأنه لم يحصل شيء، أو يُركز تفكيره للعمل المستقبلي ويتبنى الشعور بالأمل في سقوط المطر المنعش من تلك الغيوم السوداء المتلبدة فوقه؟

الباحثون النفسيون من جامعة إلينوي أفادوا في نتائج دراستهم الحديثة أن أولئك الذين يُخططون للمستقبل وينظرون مسبقا في كيفية استجابتهم للمشاكل الصعبة هم أقل معاناة من القلق، وذلك بالمقارنة مع منْ يتجاهلون الأمر أو يخفون مشاعرهم بكبتها.

ووفق ما تم نشره في عدد مايو (أيار) من مجلة «العواطف» Journal Emotion التي تصدرها الجمعية الأميركية لعلم النفس American Psychological Association، شمل الباحثون في دراستهم نحو 180 شخصا، من النساء والرجال الأصحاء بدنيا ونفسيا، وذلك حول كيفية إدارتهم لعواطفهم ومدى شعورهم بالقلق في الظروف المختلفة، وحلل الباحثون اختلاف استراتيجياتهم العاطفية وتأثيره على مستوى القلق لديهم.

وأظهرت النتائج أن أولئك الذين يُمارسون استراتيجيتهم العاطفية بترتيب وتنظيم واقعي يعتمد على مبدأ «إعادة النظر» حال مواجهة المشاكل، لديهم بالفعل مستوى أدنى من القلق الاجتماعي ومن القلق بالعموم، مقارنة بالذين يتحاشون التعبير عن مشاعرهم أو يتحاشون النظر بواقعية لأسباب مواجهتهم تلك المشاكل أو ذاك الفشل. وأفاد الباحثون أن «إعادة النظر» كمفهوم عاطفي يعني النظر إلى المشكلة بطريقة جديدة مغايرة لما تعود عليه المرء قبل حصولها، وبطريقة حيادية مع النفس.

وعلقت نيكول ليوليان، الباحثة الرئيسية في الدراسة، بالقول: «حينما يحصل شيء ما، عليك أن تُفكر به بإيجابية لرؤية النصف الممتلئ من الكأس، وذلك بإعادة صياغة التفكير لرؤية الإيجابيات، والسؤال: ما هي طرق امتلاك قدرة التفكير والنظر إلى الأحداث بكونها تحديات تحفيز، بدلا من اعتبارها مشاكل؟ والجواب: لأن منْ يتبعون هذا النهج أقل عُرضة للإصابة بالقلق الشديد».

وتؤكد نتائج كثير من الدراسات العلمية النفسية أن أهم عنصرين في الاستراتيجية العاطفية للإنسان هما أمران، الأول: الحفاظ على الهدوء النفسي والتزود بالطاقة التي تعطي للنفس قوة طوال الوقت، والثاني: امتلاك قدرة إعادة النظر بتجرد وحيادية إزاء أي مشكلة تعترض حياته.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]