المهرجانات نشاهدها وتشاهدنا!

TT

يبدو لي أن علاقتي بمهرجان «كان» صارت تُشبه المدمنين، أجد نفسي منذ عام 1992، وقد ذهبت إلى تلك المدينة الصغيرة في الجنوب الفرنسي للحصول على الجرعة السنوية، «ياه» مر من عمري 21 عاما..! الأربعاء الماضي بدأت الدورة رقم «66»، قبل أيام قليلة كنت أحضر لأول مرة منتدى الإعلام في دبي، وبعد أقل من شهر تتعدد المهرجانات العربية والعالمية، أترك نفسي نهبا لها، لتصبح جداولها هي جداول حياتي، أصحو طبقا لعرض أول فيلم، وأنام بعد مشاهدة الفيلم الأخير، مواعيد المهرجانات هي دستوري الدائم الذي لا أستطيع أن أخالفه، مهما كانت الأسباب، فأنا مثلا لم أتخلف دورة واحدة عن حضور مهرجان «كان» منذ بداية علاقتي به، على الرغم مما أتكبده من نفقات يزداد معدلها عاما بعد عام، بسبب قوة «اليورو» مقارنة بالجنيه المصري، وأترحم دائما على أيام «الفرنك» الفرنسي الطيب المتواضع الذي كان باستطاعة الجنيه المصري آنذاك أن يتصدى له ويواجهه قائلا: «قوم أقف وأنت بتكلمني»، أما «اليورو»، فإن الجنيه لا يعرف أمامه سوى الانحناء والخضوع.

أتابع في المهرجانات، ليس فقط الأفلام والندوات، ولكن أيضا الوجوه، وجوه البشر، وأرى كيف يرسم الزمن بصماته التي لا تمحى على وجوه زملائي، وأقول: من المؤكد أنهم يشاهدون الزمن وهو ينطق، بل يصرخ، على ملامحي، ولكني أسارع بطمأنة نفسي، وأسمع صوتي الداخلي يردد، ربما يكون الزمن كريما معي، أو بتعبير أدق: أظن ذلك، وأرجو أن لا يخيب ظني، أرى شحاذة في مدينة «كان» منذ 21 عاما وهي تحمل طفلا عمره عام، وبعد مرور 21 عاما لا يزال الطفل في عامه الأول.. إنها تذكرني بالشحاذين في بلادي، حيث يؤجرون طفلا رضيعا، ويظل للأبد رضيعا، أرى القاعات والأشخاص حتى الذين لا أعرفهم شخصيا، فأنا أراهم باعتبارهم من ملامح حياتي.

أتذكر وجوها كثيرة كانت من معالم مهرجان «كان»، ثم لم تعد تذهب إليه لأسباب متعددة، في مهرجان «كان» تستمع إلى هتاف يسبق عرض بعض الأفلام، وأستمع إلى اسم «راؤول»؛ ناقد فرنسي راحل تعود أن ينطق بصوت مسموع باسمه، قبل عرض الأفلام، وبعد رحيله لا يزال زملاؤه القدامى يتذكرونه ويهتفون بمجرد إطفاء نور القاعة «راؤول.. راؤول»، في المهرجانات نكتب عن الأفلام والندوات واللقاءات وحتى الكواليس بكل تفاصيلها، لكننا لا نكتب عن أنفسنا وعما نشعر به لأننا لسنا آلات تذهب للمتابعة فقط، إننا بشر. وأعترف لكم أن أسوأ مشاهدة للأعمال الفنية هي تلك التي نجد أنفسنا مضطرين لحضورها في المهرجانات، لأننا متخمون بكثرة الأفلام التي تتدفق علينا، في اليوم الواحد قد يصل كمّ المشاهدات أحيانا إلى 5 أفلام، هل هذه عدالة؟! نحن نظلم أنفسنا بقدر ما نظلم الأفلام، لأنك بعد أن تشاهد الفيلم ينبغي أن تعايشه ليشاهدك ويمنحك نبضاته، ولكن كيف يتحقق ذلك وأنت تلهث من فيلم إلى آخر، ثم بعد أن نعود من السفر ينبغي أن تستعيد نفسك قليلا، قبل أن تشد الرحال إلى مدينة أخرى ومهرجان آخر، ووجوه تلتقي بها كثيرا، ووجوه تشاهدها لأول مرة، أسعد بالأيام وأشعر بالشجن على الزمن الذي يسرق من بين أيدينا، نعم، المهرجان يعني عيدا وفرحة وبهجة، وهو بالنسبة لي يحقق كل ذلك، إلا أنه أيضا يخصم من أعمارنا زمنا، وكما قال الشاعر: «ما أروع الأيام يا صاحبي لولا أنها إذا مضت لا ترجع»، أشعر بمرارة الأيام والسنوات المسروقة، ويتردد في أعماقي صوت عبد الوهاب: «أنا من ضيع في الأوهام عمره»، أما أنا فأقول: «أنا من ضيع في المهرجانات عمره»!