حديث الخليج

TT

إن نهضة أي مجتمع تبدأ حينما يُطلق العقل من عقاله؛ من أسر المسلمات، والأجوبة الجاهزة، واليقين المطلق، وحين يتخلى الإنسان عن اقتفاء الأثر، والإيمان الأعمى، عندما يمارس العقل وظيفته التي خُلق لها: «التفكير»، فيدخل في حوار مع الكون المحيط هدفه الكشف عن أسرار هذا الكون وتسخيره لمصلحة الإنسان، هذا ما طالبنا به كتابنا المقدس حين أمرنا بالتفكر في هذا الكون المدهش: «..ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا..» (آل عمران: 191) وحثنا على السير في أرجاء الأرض والتأمل في بدايات الخلق لا في خواتيمه ليدرك الإنسان سيرورة الوجود: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» (العنكبوت: 20). ولا يكتمل إيمان المسلم ما لم يدرك عظمة هذا الإبداع الإلهي الذي يتجلى في كل مظاهر الوجود: من الزهرة الناضرة، إلى الغيمة الشاردة، إلى النجم الثاقب، فكل كائن له وظيفته في هذا الكون الهائل، ولكل كائن كيانه الخاص ومساراته التي فُطر عليها، وعلاقتنا بهذا الكائن لا تأخذ أبعادها المثمرة ما لم نتفهم بنيته الداخلية، وعلاقاته بمحيطه.

إن الأساس في نهضة أي مجتمع ليس الموارد التي يمتلكها مهما كانت وفرتها؛ بل في استخدام العقل وإطلاق إمكاناته المدهشة، فهو الذي بإمكانه أن يفك شفرة هذا الكون، ويجعل من الطبيعة كتابا مقروءا، وهو الذي حول الإنسان من قاطف للثمر وصائد للحيوانات إلى زارع وصانع، أي من متكئ على ما تقدمه الطبيعة له، إلى مكتشف لثرواتها الكامنة.. من مُتَّبِع يكرر نفسه، إلى مبدع يتجاوز نفسه ومحيطه في كل لحظة.

وإبداع الإنسان يتمثل في اتجاهين: الإبداع العلمي، والإبداع الثقافي، فالعلم والثقافة مكونان أساسيان لأي حضارة إنسانية.

والعلم بما يوفره للإنسان من قدرة متزايدة، ومن ثراء مادي، قد يميل بالإنسان إلى الغرور، والانتشاء بالقدرة المتزايدة والثروة ليوظفهما في التعالي على الآخر ومحاولة تهميشه واستغلاله، فيتحول العلم بذلك إلى قوة عدوانية مدمرة.

أما الثقافة فهي القوة الناعمة التي تتغلغل بلطف في أحشاء الكون لتصغي إلى نبض الكائنات وصوتها الخفي، وتكشف حقيقتها المستورة.. الثقافة تقيم علاقة إخاء مع الطبيعة، فهي تُؤنْسِنُها وترى في كل مظهر من مظاهرها عظمة الخالق وروعة المخلوق، وهي بهذه العلاقة المتوازنة تعزز قيم الإنسان وانفتاحه على الآخرين، والاحترام لكل كائن، وتحدّ من إمكانية تحول قوة العلم إلى قوة صادمة متوحشة.

لقد فطن متنورو الخليج العربي منذ فترة مبكرة إلى أن حضور الخليج العربي كقوة فاعلة لن يكون إلا من خلال تبني مشروع قومي للتنمية الثقافية يسهم في نهضة المنطقة كلها، وفي دعم نهج الخليج العربي القائم على مبادئ التعاون والمشاركة والحوار البناء.

وإذا كانت العتبة الأولى للثقافة هي نشر التعليم، فقد أولت دول الخليج العربي التعليم مكانة كبرى في مشروعاتها التنموية، فحفلت بلاد الخليج العربي بالمدارس والجامعات، وأرسلت أعدادا كبيرة من الطلبة إلى البلاد العربية والغربية لإكمال تعليمهم، وأسهمت دول الخليج العربي في إنشاء جامعات ومدارس في كثير من أرجاء الوطن العربي.

ولكن التعليم في وطننا العربي ما زال يعتمد على التلقين الذي يقصر دور العقل على الحفظ والتذكر ويلغي قدرته على الفحص والتساؤل والنقد بما يجعل الغرض من التعليم تخريج الموظفين، لا العلماء والمبدعين.

ولكن الإنجاز الثقافي الأبرز لدول الخليج العربي يتمثل في إطلاق مجموعة متناسقة من المؤسسات الثقافية ومن الإصدارات التي جعلت للخليج دورا فاعلا في النهوض الثقافي العربي.

نذكر من هذه المؤسسات الثقافية: مؤسسة سلطان العويس، ومهرجان الجنادرية، وجائزة سعاد الصباح، ومؤسسة الفرقان، وجائزة الملك فيصل، ومؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، وجائزة البوكر للرواية العربية، ومؤسسة الفكر العربي، ودار الآثار الإسلامية للشيخة حصة صباح السالم الصباح. وقد أحدثت هذه المؤسسات بما تقدمه من جوائز للمبدعين، ومن ندوات تثير الكثير من قضايا الثقافة الراهنة، تحريكا للمياه الراكدة في المشهد الثقافي العربي، ولا بد من الإشارة إلى بعض الإصدارات المهمة التي انطلقت من بعض دول الخليج العربي لتشكل محاور جذب للقارئ على امتداد الوطن العربي وخارجه؛ نذكر من ذلك «مجلة العربي» التي صدرت منذ الخمسينات لتصبح أكثر الدوريات العربية توزيعا في الوطن العربي، وكتاب «عالم المعرفة» وغيره من الإصدارات التي تبناها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.

وإيمانا منا بدور الثقافة في تجاوز الانقسام العربي وتوحيد الصفوف، وتأصيل الانتماء للأمة، تم إنشاء مؤسسة «جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري»، وخلال عقدين من الزمن، تمكنت المؤسسة التي ركزت أنشطتها في مجال الشعر العربي، من أن تقدم عشرات الجوائز للشعراء العرب تكريما وتحفيزا لهم، وأقامت كثيرا من الندوات الأدبية في الحواضر العربية والأوروبية، ونظمت مئات الدورات التدريبية في مجال اللغة العربية، والعروض، وأنشأت المراكز المتخصصة في حوار الحضارات والترجمة، وتحقيق المخطوطات، بالإضافة إلى تأسيس أول مكتبة متخصصة في الشعر العربي، وإتاحة المجال لآلاف من طلبة آسيا وأفريقيا لإكمال دراساتهم العليا من خلال بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات العليا، ودعمت الكثير من المشروعات الثقافية في الوطن العربي.

وإذا كان الفائض المالي لدى دول الخليج العربي قد مكنها من تقديم مساعدات اقتصادية قيمة لعديد من الدول العربية والأجنبية، وأن تسهم في النهوض الاقتصادي لهذه الدول، فإن بإمكان دول الخليج العربي أن تستفيد من الفائض الثقافي العربي وأن تهيئ له وسائل الظهور والتفاعل، وأن توظف إمكاناتها الكبيرة للإسهام في النهوض الثقافي العربي.

ويبقى أن تلتفت دول الخليج العربي إلى أن أساس أي نهضة يكمن في استغلال إمكانات العقل اللامحدودة وخلق المناخ الملائم لتحويله من عقل اتباعي إلى عقل إبداعي، ولن يكون ذلك إلا في توفير أجواء من الحرية المسؤولة، وفتح النوافذ على كل الاتجاهات، وتطوير التعليم بشكل جذري، وخلق الحوافز للمبدعين.. بذلك تضع دول الخليج العربي يدها على ثروتها الحقيقية والدائمة، وتتحول من دول مستهلكة مستوردة لكل شيء، إلى دول منتجة وفاعلة في المجالين الإقليمي والدولي.