الواقفون في نهر التغير الاجتماعي

TT

في شوارع الرياض تنتصب حاليا لوحات دعائية تحمل صورا ضخمة لدعاة وفنانين ولاعبين يعرضون خدمات تجارية، في الماضي كانت هذه الشوارع تحمل لوحات دعائية لأشخاص أخفيت وجوههم حتى لا يفقد المعلن عملاءه ممن يرون حرمة التصوير. في زمان أبعد من ذلك كان المعتاد عليه رؤية النساء يركبن في الخلف حتى مع ذويهن فمن العيب ركوبهن في الأمام، أما الآن فإن المرأة لا تركب في الخلف إلا إذا كان قائد المركبة سائقا أجنبيا. تغييرات بزاوية مائة وثمانين درجة تقبلها المجتمع بهدوء بعيدا عن ضجيج الآيديولوجيات وصراع المؤدلجين، لا يكاد يلحظها سوى من يوقف قاربه على ضفة النهر ليرى ما الذي يحمله النهر من جديد بين فترة وأخرى، وتشبيه التغيير بالنهر اتفق عليه فيلسوفان هما اليوناني هرقليطس الذي يقول: «لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين»، والصيني داو دي جنق الذي يشبّه التغيير بالماء فهو على نعومته وبساطته يقتلع الأحجار والصخور ويزيلها من أماكنها. والتشبيه الأخير لجنق يناسب ما يحدث من تطورات في المجتمعات فهي تحدث بسلاسة وانسجام وثبات كجريان الماء إلى درجة أن من عايش التغيير لا يكاد يذكره، ومن جاء بعده لا يعرفه.

العقل الجمعي مثل عقل الفرد ينمو ويتطور ويتغير، ولكن لأنه حصيلة تواصل واتفاق مجموعة من العقول الفردية فإنّ تغيّره يكون سلحفائيا بخطوات من بطئها لا تكاد تسمع أو ترى. وفي حالة مغامرة أحد الأفراد بقفز هذه الخطوات فإن التوبيخ والاتهام والتثبيط سيكون نصيبه، فهو خروج عن التقليد الذي هو أصل التقاليد. المغامرة والجرأة في استشراف المستقبل والتخلص من قيود هي أقرب للعادات منها إلى المسلمات فعل محمود وريادي، لكن المسايرة والمواكبة قد تكون مبرّرة عندما يكون دافعها الحفاظ على المكتسبات والحفاظ على الاطمئنان الذاتي، ففي المشهد الغابر للوحات الدعائية مطموسة الوجوه لا يمكن لوم المعلن على تصرّفه لأن هدفه الرئيس جذب أكبر عدد من الزبائن وتجنّب إغضاب أي زبون فيهم قدر الإمكان، وربما لو غامر بمجابهة العقل الجمعي - الذي يرى غالبيته أو الصوت الأقوى فيه حينذاك حرمة التصوير - لأدى عمله إلى حملات مقاطعة لمنتجه واتهامات بمحاربة القيم والمعتقدات.

وعملية التغيّر الاجتماعي البطيئة قد يسرّعها محفزّات بعضها طارئ مثل الثورات العربية وبعضها يؤثر بوتيرة مستمرة ومتصاعدة مثل التطوّر التقني وثورة وسائل التواصل الاجتماعي التي خلعت أبواب ونوافذ وسقوف المجتمعات المنغلقة لتضعها وجها لوجه أمام العالم كله، وصنعت منابر ومعابر لحرية التعبير والنقد، وأتاحت الفرصة للرأي الآخر ليتنفس مما أنتج مناخا صحيا لغربلة الآراء وإعادة النظر فيها، وخلاف الثوابت والمسلّمات التي لا يسمح أي مجتمع متديّن بالتعدي عليها، فإنّ الآراء التي تعتمد على اجتهادات فقهية أصبحت عرضة أكثر من ذي قبل للتمحيص والمقارنة مع غيرها من الآراء المخالفة، وإن كان هذا التوجه لا يزال أسيرا لمخاوف مغايرة النسق الثقافي الاجتماعي، وهذا ما انتقده الدكتور عبد الرحمن الزنيدي أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الذي طالب في محاضرة له بتجديد الثقافة الشرعية في مواقفها من المشكلات والمعطيات المعاصرة، وعزا تحرج بعض العلماء والدعاة من إبداء اجتهاداتهم التي يرونها حقا يدينون لله به إلى خشية مصادمتها لما استمرأه الناس على أنه دين في حياتهم الماضية مما قد يحدث بلبلة في نفوسهم، وأرجعها أيضا إلى التهيّب من سطوة أصحاب الرؤى السائدة الذين لن يكون موقف بعضهم - كما قال - موقف نقد واحتجاج بالدليل والتعليل، وإنما سيتجاوز إلى الاتهام بإفساد الدين وتمييع الشريعة.

من محفزات التغير الاجتماعي أيضا التغيّر الاقتصادي فمرحلة الطفرة في السبعينات كوّنت عادات وظواهر جديدة بعضها لا يزال حاضرا حتى الآن مثل استقدام السائقين والخادمات التي فرضت نفسها في المجتمع متجاوزة جدل الاختلاط وهو أحد إشكالات العقل الجمعي التي تؤدي إلى قبوله لمظاهر ورفضه لأخرى مماثلة من غير تبرير منطقي لهذا التعارض، وكما أثرت أحداث الطفرة بشكل كبير في طبيعة المجتمع فإن ظروفا مثل انهيار الأسهم وانحسار الطبقة المتوسطة والغلاء المعيشي وارتفاع السكن ستقود بدورها تغييرا اجتماعيا يفرضه التكيّف مع هذه الظروف ومنه مثلا زيادة التقبّل لعمل المرأة والأعمال الحرفية.

الابتعاث أيضا محفز ومسرّع للتغيير فهو باتساعه وتعدّد بلدان الابتعاث يكسر حاجز الرهبة من التواصل مع الآخر ويسهم في تنوّع المصادر الثقافية، وهذه الأخيرة هي الخلطة التنموية التي تسببت بعد مشيئة الله في ازدهار الحضارة الإسلامية.

التغيير إذن مقبل بهدوء وسلاسة النهر، والضجة الوقتية التي تصاحبه أمر طبيعي يصاحب كل عملية تغيير، ولكن الأفضل بدل مصادمته مصاحبته، وبحث أفضل السبل للاستفادة منه، وتوعية أفراد المجتمع للتعامل الصحيح معه بدل تخويفهم منه.