رسائل بنغازي

TT

لم تكشف مئات صفحات رسائل البريد الإلكتروني التي أفرج عنها هذا الأسبوع شيئا عن الطريقة التي قتل بها أربعة أميركيين بصورة مأساوية في مدينة بنغازي، بل كانت دراسة حالة عن الإخفاق في واشنطن.

وبدلا من قراءة هذه الرسائل من أجل مادتها الخاصة ببنغازي (في وقت لم تتوافر فيه الأدلة للمسؤولين بعد ثلاثة أيام من الهجوم)، حاول قراءتها بإمعان كتوضيح لكيفية استجابة البيروقراطية لهذه الأزمة، وخصوصا عندما يدرك المسؤولون أنهم تحت بؤرة الضوء الإعلامي. ستكتشف أنها ليست سوى رواية من 100 صفحة لحرب بين مجرمين. وفي النهاية خرج المنتج النهائي مهترئا ورديئا فاقدا لكل معانيه. فقد أبدت كل الوكالات المعنية رأيها، فحذف ما حذف، ولم يتبق سوى القليل للجمهور. ولا عجب في أن يبدي مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق ديفيد بترايوس الذي بدأ هذه المهمة عندما التقى لجنة الاستخبارات في مجلس النواب لشرب القهوة صباح يوم الجمعة 14 سبتمبر (أيلول) عدم سعادته بتلك الجهود. وشكا من أن هذا ليس تحديدا ما كانت تتطلع (اللجنة) إلى الحصول عليه للاستخدامات غير السرية، وصاح: «صراحة، أنا لا يمكنني أن أستخدم هذا». لكن في إشارة إلى موافقته بما جرى أنهى برسالة: «على الرغم من ذلك، أشكركم على العمل العظيم». ما كان ينبغي عليه قوله هو أن «هذه الرسائل تم اختصارها بصورة غير منطقية. يجب العمل عليها مرة أخرى». وبتشجيع منه تم إرسال الوثائق إلى لجنة الاستخبارات ومنها إلى العالم. ربما لكوني كاتب روايات عن الجاسوسية، لم أستطع رفض قراءة هذا الملف الضخم من رسائل البريد الإلكتروني كرواية من المراسلات عن الحياة في ظل الروتين الحكومي. لم تكن المراسلات، بنفس نمط صامويل ريتشاردسون من كتابة الروايات عبر الرسائل، كما هو الحال في روايته الكلاسيكية «كلاريسا»، لكنها ذكرتني إلى حد ما بأولى روايات الجاسوسية لتشارلي مكاري، كاتب روايات الجاسوسية الأفضل في أميركا «ملف ميرنك» والتي كتبت في صورة سلسلة من البرقيات والوثائق الأخرى. صحيح، أن السرية أميطت عن كل رسائل البريد الإلكتروني، لكنها كشفت حقيقة واحدة عن سياسة الأمن القومي الأميركي، وهي الترهل. فإذا كنت عميل استخبارات روسياً أو صينياً أحاول فهم فاعلية (أو عدم فاعلية) أميركا، ينبغي أن أبدأ من هنا. تجول معي في هذه الصفحات التي لا معنى لها، والتي يتبادل فيها رجال الاستخبارات المركزية الإطراء مثل «سؤال جيد» و«ملحوظة جيدة». ومنذ البداية، يبدي ضباط الوكالة حذرا شديدا بشأن ما قد يقوله المحامون: «تأكد من أن شيئا مما نقوله هنا لن يؤثر على أي ملاحقة قانونية في المستقبل»، كان ذلك في وقت كانت فيه أولوية الوكالة معرفة من قام بالهجوم، لا حقوقهم القانونية المحتملة. ثم تبدأ سلسلة من الثناء البيروقراطي والخلاف على الأمور التافهة، مع دعوة كل الوكالات الجديدة للمشاركة في التحقيق. وأرسلت نسخة، في وقت لاحق، إلى مكتب مدير الاستخبارات الوطنية ثم البيت الأبيض، ثم انتهت إلى المتحدثة باسم الخارجية فيكتوريا نولاند، الملمة بكل أنواع المشكلات بمسودة غنية بالتفاصيل، والتي كانت تخشى أن تصل إلينا في المؤتمر الصحافي، ومن هناك بدأ تحييد النص بشكل جدي. بعد ذلك، ضم مكتب المحررين المزدحم مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل ومجلس الأمن القومي، إضافة إلى الكثير من المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية، ووزارة الخارجية والبيت الأبيض، وفي الساعة 8:40 مساء يوم الجمعة وأثناء الحذف الذي استمر لساعات، قال جاكوب سوليفان، المستشار المعجزة لوزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، هيلاري كلينتون (بشكل عملي): «أنا لا أفهم طبيعة العمل». استشعر مسؤولو الإعلام في البيت الأبيض المشكلة مسبقا، بالنظر إلى أن موضوعات النقاش سيتم تحليلها من قبل وسائل الإعلام الإخبارية الشغوفة بشكل كبير بشأن ما حدث في بنغازي. وقد حذر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي تومي فيتور من أن «هناك حجبا هائلا للمعلومات، وخصوصا مع الكونغرس». لقي هذا التحذير تأييد بن رودز أستاذ الصحافة الذي حذر بدوره من «تقديم قدر كبير من المعلومات الخاطئة، وخلق حالة من الانطباعات الخاطئة المتشددة». عذرا يا بن، لكني أعتقد أن هذا هو ما حدث بالفعل. كان المحرر الأخير هو مايكل موريل، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية في صباح اليوم التالي. والذي أعاد تحرير ست نقاط مهمة غنية بالمعلومات يمحو أجزاء منها وتخرج في ثلاث نقاط لا تحوي سوى معلومات ضئيلة للغاية.

جاء في نهاية المتاجرين بكومة الرسائل مكتب سوزان رايس، والذي تم تكليفه بتقديم موضوعات النقاش في برامج الأحد. وحينئذ، كما نعلم، بدأت معضلة بنغازي فعليا.

* خدمة «واشنطن بوست»