الثورة في التفكير.. وتحقيق التغيير

TT

التغيير سنة من سنن الله في الكون. ولكن السؤال المهم المطروح هو: هل الثورات والمظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات والمسيرات، هي الوسائل الأمثل والأسهل لتغيير المجتمعات؟ قد يجيب البعض بـ«نعم». ولكن الحقيقة هي أن التغيير الحقيقي الأمثل المنشود والذي يرفع من شأن المجتمعات والعالم هو التغيير والثورة على أنفسنا وعلى أنماط تفكيرنا التقليدية والعشوائية والخرافية. الوسيلة الأساسية الأولى للتغيير الكامل في أي مجتمع هي أن نبدأ أولا بتغيير وإصلاح أنفسنا إلى الأفضل، حتى نتهيأ لاستقبال التغيير المطلوب في المجتمع.

نعلم أن الأفكار هي البداية الحقيقية لأعمالنا وأفعالنا وسلوكياتنا، والطريقة التي نختار أن نفكر بها هي التي سوف تحدد وتؤثر في نهاية المطاف على أفعالنا وأعمالنا، وعندما نكون قادرين على تغيير الطريقة التي نفكر بها، فسوف نكون قادرين بالتالي على تغيير مجتمعنا وعالمنا نحو الأفضل.

أهداف التغيير التي يطرحها الأفراد أثناء الثورات والمظاهرات والاحتجاجات في أي مجتمع، لن تحقق بمفردها التغيير الكامل والشامل في المجتمع، إذا لم يسبقها ويصاحبها ثورة وتغيير في الفكر والتفكير السائد.

لا يكفي أن يرفع الثوار والمحتجون والمتظاهرون شعارات وأهداف التغيير، من تغيير للنظام السياسي في المجتمع وتحقيق للحرية والعدالة والديمقراطية، ولكن لا بد أولا أن يسبق ويصاحب ذلك تغيير وثورة حقيقية على النظم والأنساق القيمية السلبية التدميرية التي سادت وتغلغلت في المجتمع، والتي تعوق التحقيق الكامل والشامل والحقيقي للتغيير. لا بد أولا أن تحل قيم النزاهة والشفافية وتقدير الكفاءة والمنافسة الشريفة والاعتراف بالحق والعمل الجماعي وروح الفريق والحوار، وغيرها من قيم إيجابية بناءة، محل الأنساق السلبية السائدة المدمرة التي تعوق التقدم والتغيير الحقيقي الكامل في أي مجتمع مثل الغش والتزوير والوساطة والمحسوبية وإهدار الكفاءات والفهلوة والحقد والغيرة والتسلق والنفاق والتلاعب بالسلطة والقانون ونهب الأموال والثروات والأنانية و«الأنامالية» وغيرها. ولا يكفي فقط أن نثور على النظم والأنساق القيمية السلبية السائدة في المجتمع، ولكن لا بد أن يسبقها ويصاحبها أيضا ثورة حقيقية كاملة على أنفسنا وسلوكياتنا وتصرفاتنا وأنماط تفكيرنا والوصول إلى تغييرات جذرية فيها. التغيير الحقيقي لا يعني فقط المطالبة بسقوط واقتلاع الأنظمة المستبدة واستبدال أخرى بها، ولكن يعني أولا ويتطلب التغيير الجذري لأنفسنا ونظم تفكيرنا وكذلك سقوط واقتلاع نظم الفكر والتفكير السائدة في المجتمع في العديد من المجالات والتي أنتجت وشكلت هذه الأنظمة المستبدة.

من يتابع الخلافات والانقسامات الحادة والجدل في الشارع السياسي لدول الربيع العربي، يتضح له حجم الخلل الذي نعاني منه في أسلوب وطريقة التفكير والحوار، فإما أن تكون مع وإما أن تكون ضد، وكأن الثورات والمظاهرات والاحتجاجات قد قامت فقط من أجل هذا، مع أن الحقيقة هي أن طريقنا الحقيقي للتغيير هو في تغيير أسلوبنا وطريقتنا في التفكير.

التغيير الحقيقي في أي مجتمع هو في اتباع منهج وأسلوب وثقافة التفكير العلمي الصحيح، بحيث يصبح نمطا سائدا وطريقة للسلوك والحياة والنظرة للعالم والتعامل مع الغير. لقد استطاعت المجتمعات المتقدمة أن تحقق التغيير الحقيقي لها وللعالم باتباع أسلوب التفكير العلمي الذي أصبح ملمحا أساسيا في سلوكيات وحياة المواطن اليومية، فهو في تفكيره وبحثه عن أسباب المشكلات والظواهر والأحداث يهتم بالبحث عن الأسباب الحقيقية المحسوسة والملموسة، بعيدا عن الأسباب والأفكار الغيبية والخرافية. وباتباع أسلوب التفكير العلمي، استطاعت الدول والمجتمعات المتقدمة أن تتغير وتغير العالم، فهي في توجهاتها دائما تنظر للأمام ونحو المستقبل، الأمر الذي يسهم في تحقيق التقدم والرقي في جميع مجالات الحياة.

المدخل الأساسي لحدوث التغيير الحقيقي في مجتمعاتنا العربية، يقتضي حدوث ثورة وتغيير جذري وشامل في أساليب الفكر والتفكير، تغيير عقلية الفرد والمجتمع بحيث يصبح التفكير العلمي العقلاني نمطا سائدا في الحياة ومنظومة القيم المجتمعية، الأمر الذي سيؤدي إلى إزالة سوء الفهم ونبذ مظاهر الخلاف والعداء وتحرير عقول الأفراد من الأوهام والخرافات التي توجه سلوكياتهم وتقدم لهم حلولا وتفسيرات خاطئة للكثير من المشكلات والأحداث والظواهر، والاستفادة من إخفاقات الماضي وعثرات الحاضر في التوجه للأمام وبناء المستقبل، ولن يتم هذا إلا بتغيير مفاهيم وأساليب التنشئة الاجتماعية منذ الصغر، مع إعادة النظر في النظم والسياسات الإعلامية، حتى يتم إعداد وتربية مواطن تربية علمية صحيحة تحترم التفكير العلمي والمنطقي، ليكون لبنة صالحة في بناء مجتمعه وأمته.