ثقافة العمل وصناعة الأمل

TT

فركت عينيَّ جيدا وأنا أقرأ الخبر على أحد المواقع الإخبارية والذي انتشر بشكل غريب، وأعدت قراءته مرة أخرى وذلك لأنني بالكاد أصدق ما حصل فيه. فالخبر ببساطة يقول إن المدير العام للبريد الممتاز في المملكة العربية السعودية حمد البكر «تفاعل» مع تغريدة على الفضاء الإلكتروني بموقع «تويتر» تحمل استفسارا بسيطا ولكنه مؤلما: «هل تقبل أن يفسد البريد السعودي فرحة عروس في ليلة زفافها؟» وأجاب الرجل السؤال فورا بكلمة: «لا». وتحرك الرجل بعد أن علم أن موعد زفاف العروس هو يوم الجمعة، وأن فستانها المرسل بالبريد الممتاز لم يصل إليها بعد، والجمعة كما هو معروف هو موعد الإجازة الرسمية بالسعودية، فطلب البكر رقم الإرسالية الخاصة بالفستان وتبين له بعد السؤال أن الفستان مرسل منذ يوم الثلاثاء ووصل الخميس إلى مدينة الرياض قادما من جدة، ولكنه لم يصل بعد إلى مدينة «حريملاء» وهي مدينة العروس نفسها، وتحرك المدير بشكل عملي وبادر بأن طلب من أحد موظفي البريد فتح المكتب والبحث عن الطرد وجلبه، وأخذ الطرد بنفسه وبسيارته الشخصية، وتهاتف مع أقرباء العروس قاطعا وقت إجازته، مسلما الأهل الطرد الذي يحتوي على فستان العروس وسط فرحة عارمة جدا عمت على الجميع، وحصل تفاعل معهم.

ولاقت من قبل رأس مؤسسة البريد السعودي الدكتور محمد صالح بنتن، وهو الرجل الإداري المحنك الذي «فورا» ما قابل حمد البكر وكرمه في لقاء عام.

الخبر على مجمله خبر شبه مثالي، بلا خطأ ولا قصور، خبر فيه الجرعة الكبيرة من التشويق والإثارة والنهاية السعيدة الجميلة.

حمد البكر بتصرفه «الفريد والنادر جدا» (لأنه لو كان تصرفه من النوع المعتاد لما لقي كل هذا القدر من الإعجاب والاهتمام) يعيد الأمل في وجود المثالية، وفي الإحساس بأمانة المسؤولية والعمل «خارج» نطاق الدوام وساعاته، وإلغاء فكرة السلبية، وإذكاء الإحساس بالمسؤولية، ورفع معدل الوعي والضمير في العمل، وترسيخ معان غابت واندثرت، مثل الأمانة والقيمة والمسؤولية، ولا يمكن إغفال الدور المحترم والمسؤول لمدير حمد البكر الذي «كرم» الرجل بشكل لائق، وحرص على إظهار هذا الإنجاز بشكل علني، وهي مسألة تستحق هي الأخرى الاحترام والتقدير.

في ظل وجود حملة مكثفة من الدولة في السعودية لأجل توطين الوظائف، لا بد من إبراز الدور الإيجابي للموظف السعودي، والقصص اللافتة والمهمة، بدلا من تبني الخطاب الاستفزازي الذي يتهم الموظف السعودي بالتأثير السلبي على الاقتصاد، والتسبب في إضعافه بدعوى قلة إنتاجيته.

قصة البكر والطرد البريدي وفستان العروس فيها من العبر والدروس والصفات الجميلة الشيء الكثير، ومن المهم أن لا تكون «الاستثناء»، ولكن أن تكون أساس التعامل وأسلوب العمل الدائم، وبالتالي مبادرة التكريم التي تبنتها مؤسسة البريد بحق موظف قام بعمل استثنائي يجب أن تتبناها سائر القطاعات الحكومية والخاصة؛ لإبراز الإنجازات حتى تتحول بالتدريج القصص الاستثنائية إلى قصص «اعتيادية» لا يقبل المجتمع أقل منها. فهكذا تتكون ثقافة العمل واحترام قيمه بالتدريج، وعبر الأجيال، ولكن بمصارحة وبمباشرة وشجاعة وأمانة.