هرة على مدخل القنصلية

TT

جلست عند مدخل القنصلية البريطانية في بيروت أنتظر دوري. وفي الانتظار، حسب توقيت بيغ بن لا لبنان، رأيت شيئين جميلين، أولهما غير طبيعي: اللبناني يلتزم النظام، ولا يقدم نفسه على أنه رئيس لأي جمعية أو فرقة، ولا يسمي نفسه «بريزدان» (بالفرنسية) ولا بك ولا معالي ولا «عارف حالك مع مين عم تحكي». ينادى عليه حسب الموعد، فيتقدم حسب القانون.

المشهد الآخر أكثر جمالا وروعة وحتى بهاء. فقد ترك الحرس وعاء من الماء لقطة وجرائها الثلاثة، التي يبدو أنها وضعتهن في المكان. كانت الهرة تنظف الجراء بلسانها، وتداعبهم، واحدا واحدا، وترضعهم، وتمازحهم بضربة مازحة من رأسها. وكانوا يتقافزون من حولها ولا يبعدون كثيرا عن أمومتها. وكان من حول الأربعة فرح واضح، ولا أحد منهم يلقي بالا إلى البشر وهمومهم ومخاوفهم.

تلد القطط أمام القنصليات بمحض الصدفة. ويصطف اللبنانيون أمامها لأنهم خائفون ويبحثون عن ملجأ آمن ومكان لا يسألون فيه عن هويتهم وعن حزبهم ومذهبهم. لا بد من التفصيل. لأن الدين وحده لا يكفي والمذهب وحده لا يكفي فقد تكون صحيح المذهب وخائن الانتماء عميل المشاعر. لا بد من التوضيح. لا يكفي إطلاقا أن تكون مواطنا. يجب أن تخاف. وأنت لا تخطط للمستقبل بل تخشاه، لأن مستقبلك ليس لك. المستقبل ملك الوطن وهذا هو وطنك. والمستقبل للأمة وهذه هي أمَّتك.

أنت، عليك أن تغبط الهررة على علاقتها ببعضها البعض وعلى هذا المشهد الإنساني النادر. فالوقت صباحا، وقد قرأت للتو عناوين الصحف، وأصغيت في السيارة إلى زعيق السياسيين، وتكدرت فوق كدر الأمس، وفقدت المزيد من الثقة في الناس، ولم يبق سوى هذين الأملين: جواز السفر الموثوق، ومشهد الهرة الأم والهررة الجراء، الذين بدأوا يتلمسون عالمهم في رعايتها. وأعتذر عن عدم استخدام صيغة «الجمع المكسر» للحديث عن هذه العائلة الصغيرة من صنف السنانير. لقد جعلني سلوكها أتأمل الحياة والأصناف والأنواع من جديد. ويعرفُ الإنسان بأنه حيوان ناطق، لكن كم مرة نتمنى لو أنه لم ينطق ولم يقل شيئا. الإنسان حيوان مضاد، غاضب، مكشر، متربص، كاره، حاقد وكم هو مذهل مشهدُ الرحمة عند القطط.

الإنسان ليس مثل الهررة. إنه أقرب إلى العقرب. لا تعرف متى يلدغ. ومتى يكذب. ومتى ينم، ومتى يغرق في طبعه المولود، ومتى يحسد ولماذا. الهرة أم. الإنسان وشاية ضئيلة.