الدولة «المختطفة»!

TT

حادثة اختطاف الجنود المصريين في سيناء، لا تختلف كثيرا عن اختطاف هيمنة الدولة من قبل السلفية الجهادية في تونس، كما أنها ذاتها عدم الانصياع لمشروع نزع السلاح في ليبيا، والحبل على الجرار في كل دول «الربيع العربي» الذي ثارت فيه الشعوب، فلم تسقط النظام لأن بنيته المعرفية هي عملية تبادلية في شكل ممارسة سياسية بين كل الفاعلين وهم في السابق الإسلام السياسي الذي انتقل من المعارضة إلى الحكم بنفس الصيغ والأدوات القديمة.

ما حدث هو إسقاط «الدولة» بمؤسساتها واستقرارها وهيبتها وليس مجرد نظام، وهو ما يجعل المنطقة مفتوحة على كيانات سياسة بلا مشروع دولة تحافظ على بقائها في سدة الحكم مهما كلف الثمن.

ما يحدث الآن وبالمناسبة هو مشروع كبير لأيديولوجية الإسلام السياسي الذي لا يمكن أن ينسجم مع مفهوم الدولة بمعناها الحقيقي، دولة تتسع لكل المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، مفهوم المواطنة هو مضاد تماما لمفهوم الانتماء الحزبي الذي يتم تمريره عبر شعارات مفخخة كتطبيق الشريعة أو الحرية المقيدة أو حماية الثوابت.. إلخ وربما كان تفكك السودان إلى دولتين وقبلها انفصال حماس عن باقي القطاع، ثم انفراد التشيع السياسي بالكعكة في العراق وكل الدعوات الانفصالية التي مرت بالمنطقة ما قبل الثورات مؤشرا على انهيار مشروع الدولة القومية على حساب مشروع الإسلام السياسي، إلا أن ثورات «الربيع العربي» جاءت لتنقل المسألة من حيز الصراع والممانعة تحت سقف الدولة إلى «مشروع بديل» حين أسقطوا الدولة بمعناها المؤسساتي أولا عبر فرمانات ملاحقة «الفلول» وإضعاف الجيش وإحلال الكوادر غير المؤهلة في المناصب القيادية، إلا أن هذه الممارسات الشمولية المدمرة لبنية الدولة، لا يمكن أن تمر دون ارتدادات من داخل الإسلام السياسي الذي عادة ما يخفي تحت مظلته الأيديولوجية الواسعة تيارات متطرفة تريد اقتسام جزء من كعكة الدولة المدمرة، وهو بالضبط ما يحدث في سيناء وتونس واليمن وحتى في سوريا، حيث مناكفات الجماعة المتطرفة لتيار الثورة المدني وذلك بنقل المعركة من إطارها القومي الوطني وتعميمها بالانضمام مثلا إلى قاعدة العراق.

مبدأ المواطنة في شكله البسيط هو المكون الرئيس للدولة الوطنية التي نراها تنهار بفعل مشروع الإسلام السياسي، هذا المبدأ يقوم على المساواة والحرية والمشاركة في الشأن العام على حد سواء، وهو على بساطته يتعارض بشكل جذري مع فكرة الإسلام السياسي القائمة على «الوصاية» سواء في تعريف المواطنة أو ممارستها سياسيا وحتى اجتماعيا.

تآكل الدولة «الوطنية» كان مبكرا، فحظ المنطقة الرديء أن استقلالها لم يجلب سوى حكومات بملامح وطنية، لكنها في العمق تكرس مفهوم الحزب الواحد لكن بصيغ ليبرالية ويسارية وقومية، وأنتجت في نهاية المطاف «القائد الملهم الفرد» الذي يبيد شعبه كما يفعل النظام الأسدي، لكنه يطلق حمامات الصمت تجاه الاستفزاز الإسرائيلي، وبعد ذلك كله نجد من يبرر له في وسائل الإعلام وبطريقة مشينة أنه ضمانة بقاء سوريا موحدة وهو بالمناسبة نفس الدعوى الإسرائيلية التي ترى فيه ضمانة استقرارها ويا للمفارقة.

ثقافتنا العربية مصابة بأزمة دولة، وهي بحسب ملاحظات المفكر الكبير عبد الله العروي الذي صال وجال على مدى سنوات طويلة في تأسيس مفهوم الدولة، أزمة تمتد إلى جذور ثقافتنا، فهو يؤكد أن عالمنا العربي الحديث لم يعش تجربة نظرية الدولة، بل ما زال في نطاق الفرمانات التي تحولت إلى مجرد تلفيق مدني لا معنى له مرجعا هذه الأزمة إلى مفكري النهضة ما بعد الاستقلال الذين أسلموا بشكل مؤدلج مفهوم الدولة الدستورية الحديثة لتتحول إلى دولة مدنية بمرجعية دينية، ثم جاء الإسلام السياسي ليلغي مشروع الدولة، ويبقي على الأسلمة ويطالب بعودة دولة الخلافة، التي بغض النظر عن طابعها التمييزي، لا تنتمي إلى مجال مفهوم الدولة بمعناه الحديث الذي تأسس بعد القرن السادس عشر الميلادي وهو ما يعني أن حتى تجارب الأمم ما قبل ذلك لم تؤسس لمفهوم الدولة الذي لا ينطبق على كل أنظمة العصور القديمة والوسطى.

معركة الربيع العربي كانت ضد «الدولة» بالأساس، وكل محاولات التصحيح الآن ينبغي أن تنصب على إعادة بناء مفهوم الدولة عبر إيجاد مشروع إعادة ما اختطفه الإسلام السياسي، وهو أمر يحتاج إلى «الوعي» بمعناه السياسي الاجتماعي، وعي جمعي يدرك جيدا أن أي مساس بمفهوم الدولة لكل المواطنين، هو غرق في الفوضى وتحويل للوطن العربي إلى مرتع للخارجين عن القانون، الذين يتعاظم دورهم كلما أمعن «الربيعيون» في إفشال الدولة لبقاء الحزب.

[email protected]