من خيرات المعتقلات

TT

كان ما كان، والتقيته في أيام زمان، وجرّنا الحديث لأيام المعتقلات في العراق. قال: «يا عزيزي أستاذ خالد، مهما تفعل من خير فالله يجازيك عليه. وكل الناس في هذه الأيام لا يفهمون هذه الحكمة. ما يضيع شيء عند الله سبحانه وتعالى». ثم راح يكلمني عن أيام عمله كشرطي في الأمن وكيف كلفوه بتعذيب البعثيين. قال إنهم جاءوه بشاب وأمروه بضربه وتعذيبه فانهال عليه بالضرب حتى أدماه وأغمي عليه. فرقّ قلبه على حالته فتوقف عن ضربه واستدعى الطبيب لإسعافه. ثم جاءوه بالدواء. وسهر على تضميد جروحه. قال: «ويا أستاذ خالد، يشهد الله ما استأنفت تعذيبه إلى أن صار زين واستعاد صحته».

مضى صاحبي في حديثه الصريح والمشوق فقال: «وراحت سنة يا أستاذ وجاءت سنة، وإذا بمقدرات الله، البعثيون يعملون انقلاب 1963 ويكلفون ذلك الشاب بمهمة التعذيب. وإذا بهم يأخذونني ويحضرونني أمامه ويكلفونه بأن يضربني ويعذبني مع الآخرين.. لكن الرجل كان ابن حلال ويخاف ربه. حالما رآني وعرفني غمز لي بعينه، بمعنى أنه تذكرني وتذكر إحساني عليه عند تعذيبه. أخذني لزنزانة التعذيب. وقام يضربني ولكنه كان يغمز لي ويشير إليّ بأن أصرخ وأصيح: آخ! يا ويلي!». الغرض هو أن يسمع القادة البعثيون أنه كان يقوم بواجبه حسب الأصول وبكل طاقته. لكنه في الحقيقة كان يضربه ضربا خفيفا هينا لا يوجع. «الرجل تذكر معروفي عليه وأراد أن يرد الجميل بالجميل، وقضينا أسبوعين في هذه المسرحية. أنا أصرخ: (ويلاه) وهو يضربني بالخفيف».

قلت له: «هذا يعني تماما واحدة بواحدة». مرت الأيام والشهور والأعوام وإذا بالمقادير وأحوال الربيع العربي ترمي بهما وراء الحدود لاجئين في بريطانيا. وشاءت الأقدار أن يلتقيا مرة أخرى في مقهى «نيرو» في وايتليز بلندن. عرف كلاهما الآخر فورا فجلسا حول نفس الطاولة، وتوطدت الصداقة بينهما يوما بعد يوم. قال: «نلتقي كل ليلة في مقهى (نيرو) ونتذكر أيام بغداد الحلوة، لما كانت الحكومة تقوم بالتعذيب حسب الأصول. في هالأيام مثل ما تعرف كل من هب ودب صار يخطفك ويعذبك ويعمل بك العمايل، ولا أحد يسأل. نجلس في (نيرو) ونتسامر، هو يذكرني كيف كنت أعذبه، ومرة أنا كنت أذكره كيف كان هو يعذبني».

أخذا يتبادلان الزيارات العائلية. أم فيصل تعمل كبة يوما وأم عفراء تعمل الدولمة في يوم آخر. ومرت الأيام وإذا بفيصل يخطب عفراء ويتزوجها على سنة الله ورسوله. وعندما وصل صاحبي إلى هذه النقطة من سيرة حياته لم أتمالك غير أن أقطع كلامه على عادتنا نحن العرب، فقلت له: «يا أبو عفراء، لو تفكر شوية كان تلاحظ ان كل هذا الفضل والخير يعود للتعذيب. فلولاه لما تعرفت بهذا الرجل الطيب وتعرفت بنتك بابنه وتزوجها وتخلصت منها وما بقيت برقبتك لليوم».

«معلوم يا أخي! الإحسان ما يضيع عند الله».