الانقسام الفلسطيني.. حالة يغذيها الخوف

TT

عندما يقرر الفلسطينيون، وتحديدا أطراف الانقسام إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في وقت محدد، ساعتئذ يمكن القول إن الانقسام قد انتهى، وإن وضعا فلسطينيا جديدا ومختلفا سينشأ من جوف صندوق الاقتراع.

وما دام قرار كهذا لم يتخذ رغم مرور سنوات طويلة على الانقسام، فإن كل ما يجري على هذا الصعيد هو فعاليات غير مجدية، هدفها توجيه رسالة رفع عتب للفلسطينيين، بأن جهود إنهاء الانقسام تبذل وبقوة، وأن فرقاء الانقسام يجدون في اللقاءات والحوارات منبرا للتباري في التنصل من المسؤولية عن استمرار الانقسام، ونظم القصائد والمطولات حول إخطار استمراره على الشعب والقضية.

لقد أصبحت ظاهرة لافتة للنظر، تلك البيانات المشتركة حول اتفاق نهائي تارة يتم في الدوحة ليودع في الثلاجة قبل أن يجف حبره، وتارة أخرى في القاهرة ليُنسى في اليوم التالي، إلا أن الحقيقة الراسخة تقول، إن الحوارات والاتفاقات تتكاثر والانقسام يتكرس ويتعمق.

فلماذا تبدو المصالحة على ضوء قراءة الواقع أقرب إلى المستحيل؟

هنا تجدر قراءة الموقف بين حماس وفتح، وحسابات كل منهما.. ولنبدأ بحماس.

رغم كل الكلام الجميل والمتحمس، الذي يصدر عن قادتها حول المصالحة وحتميتها، والانتخابات وأهميتها، إلا أن حسابات حماس المضمرة وشبه العلنية، لا ترى الظرف مناسبا لإغلاق ملف الانقسام، بما يؤثر سلبا على سلطتها المطلقة في غزة، فلماذا يقدمون غزة لرام الله تحت عنوان الوحدة؟ ولماذا التضحية بإمارة ناجزة لمصلحة سلطة منهكة وغامضة المصير في رام الله؟ ثم إن حماس لا ترى في المصالحة بوابة لدخول عريض إلى المعادلة السياسية، فهي تعلم أن دخول المعادلة مرتبط بشرط جازم، وهو إعلان الالتزام بما التزمت به منظمة التحرير، والعالم كله يعتبر الالتزام المفصلي على هذا الصعيد هو الاعتراف بإسرائيل، والانسجام مع قواعد اللعبة كما حددتها «الرباعية الدولية».

وموقف حماس هذا وحساباتها تنسحب كذلك على الانتخابات، فما حصلت عليه حماس في الانتخابات السابقة لن تحصل عليه في الجديدة، ولقد كانت مليونية انطلاقة فتح في غزة بمثابة الضوء الأحمر الذي نبه حماس إلى أن شعبيتها في تراجع مستمر، وأن الذين خرجوا في ذكرى الانطلاقة وإن كانوا جميعا ليسوا أعضاء في فتح، إلا أنهم قد أجمعوا على أمر وهو عدم التصويت لحماس.

ولا شك أن حماس تواجه وضعا ملتبسا، إذ إنها تراهن على تعويض ما فقدته في غزة، بما تظن أنها تكسبه في الضفة. ذلك أن حماس فقدت الكثير من رصيدها الجماهيري في غزة بفعل أنها تسلمت سلطة مطلقة فإذا بالقطاع يعاني الأمرين إن لم يكن بفعل سوء أداء سلطة حماس، فبسوء الأمر الواقع الذي ينسب للحركة من كل الجوانب.

إن مواطني غزة يشعرون بفداحة الوضع المفروض عليهم هناك، فالاقتصاد المعتل الذي يقوم على الإنفاق، والحصار شبه المطلق الذي لا تملك حماس التنصل من حقيقة أنه تم في عهد حكمها، لا بد أن يؤدي إلى تراجع في المزاج الشعبي تجاهها، إذ لم يعد منطقيا تحييد سلطة مباشرة في غزة عن كل ما يجري هناك.

أما حكاية الضفة، فحماس التي لا تزال تتخذ وضع المعارضة في الجزء الآخر من الوطن، تظن أن كل إخفاق تقع فيه السلطة في رام الله يصب تلقائيا في مصلحتها، ويؤدي إلى رهان الجماهير مجددا عليها.

إن هذه المعادلة بحاجة إلى إعادة قراءة وتدقيق، ذلك أن غزة لا تقع في كوكب آخر، بحيث لا يعرف أهل الضفة ما يجري هناك. إن الغالبية العظمى من الناس في الوطن بجناحيه، لا يرون حكم حماس نموذجيا يصلح للاقتداء به. كما أنهم لا يرون أن شعارات المقاومة التي حملتها قبل سنوات إلى السلطة لا تزال تحتفظ بمصداقيتها، فالجمهور لا يقبل شعارا يرفع في غزة ليطبق في الضفة فقط، وسلوكا يحظر المقاومة في غزة ويحرض على إطلاقها في الضفة.

إذن لماذا المصالحة وفق هذا المنطق، وما النفع الذي سيعود على حماس لو حسمت أمرها وضحت بامتيازاتها من أجل ما يسمى بمصلحة الوطن؟!

أما فتح التي تريد حقا إنهاء الانقسام، لأنه يعيد لها بالحوار ما فقدته بالقتال أي غزة، ولأنه كذلك يوفر لتمثيلها للشعب الفلسطيني عبر منظمة التحرير، مصداقية فعلية بعد الشروخ التي أصابت هذه المصداقية بفعل الانقسام، إلا أنها خائفة من الانتخابات، ليس بفعل قوة حماس التصويتية، وإنما بفعل عدم قدرة فتح على إنهاء أو تجميد أو تخفيف حدة الصراع الداخلي فيها. وإذا كانت فتح تتجمع في احتفال ذكرى مجيدة كما حدث في مليونية غزة، إلا أنها تتفرق حول صندوق الاقتراع، ولقد ظهر ذلك في إدارتها للانتخابات المحلية، حيث الخسارات الفادحة في المدن الرئيسة وعلى يد من؟ على يد صراعها الداخلي بالطبع، الذي أدى إلى عجزها عن تشكيل قوائم جاذبة للجمهور، ونجاح قياداتها الرسمية في تشكيل قوائم طاردة.

إن فتح الرسمية التي أدارت الانتخابات المحلية على الصورة التي رأيناها، أصبحت تخاف من نفسها، وهذه كلمة السر في التردد في أمور كثيرة، بما في ذلك التورط في أمر الرقص على إيقاع حماس، والجري وراء الحوار اللامتناهي معها، وهي تدرك أنها بذلك تمنح حماس الوقت المطلوب لترسيخ وضعها، وتسلب من فتح فرص تجديد مصداقية قدراتها على تمثيل الفلسطينيين وقيادة مشروعهم الوطني.

الحل:

أن الجزء الأكبر من فتح، مع الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، يريد إجراءات شجاعة لإخراج الحالة الفلسطينية كلها من مستنقع الانقسام، والإجراءات الشجاعة تعني أولا التمرد على النمط القديم في الحسابات التي تقود إلى عدم اتخاذ القرارات.

إن بوسع فتح دعوة المجلس الوطني إلى الانعقاد، بوصفه لا يزال مصدر الشرعية الأهم والأعلى، لتراجع هذه الهيئة البرلمانية الوضع الداخلي الفلسطيني، وتتخذ قرارات ملزمة للخروج منه، وأول هذه القرارات تحديد موعد دوري للانتخابات التشريعية والرئاسية، بحيث لا نحتاج إلى حوارات تبدأ من الصفر، لو قررنا إجراء انتخابات مجلس قروي، وساعتها من يقف في وجه صندوق الاقتراع سيتحمل المسؤولية كاملة عن موقفه، مع أنني أستطيع القول إن في حماس من العقلاء ما يكفي للتجاوب مع هذا القرار، خصوصا إذا ما أظهرت منظمة التحرير حسما لا تردد فيه في أمر الانتخابات.

قد يقال إن دعوة المجلس الوطني للانعقاد واتخاذ قرارات سوف يكرس الانقسام لو قاطعته حماس.

الجواب المنطقي أن ما يكرس الانقسام أكثر وبصورة أعمق، هو بقاء الوضع على حاله، أي حوار ثم حوار ثم، ولا نتيجة سوى أن الوضع يزداد سوء وتراجعا.