التعتيم المخابراتي في الشرق الأوسط.. لماذا؟

TT

لا شيء أكثر أهمية من المعلومات في مناطق الحروب والأحداث، فهي مهمة للمشاركين في الحرب والحدث، ومهمة للمتابعين والمؤسسات القانونية ولمنظمات حقوق الإنسان وللمنظمات الدولية ووسطاء السلام، وربما أكثر أهمية للمؤسسات الإعلامية ولكل من يدخل تحت هذا التصنيف بأي مستوى كان. فحركة المعلومات تساعد على البحث والتحليل وقراءة احتمالات تطور الحرب والأحداث، ومن خلال القراءة يمكن التوصل إلى آراء وتوصيات ومقترحات كثيرا ما تغيب عن فطنة وإدراك وكفاءة مؤسسات حساسة، بما في ذلك أجهزة الأمن والاستخبارات، خصوصا تلك التي لا يزال بناؤها حديثا وتفتقر إلى المحللين من ذوي الخبرة العالية، فلا شيء أكثر تعقيدا من إعداد المحللين للوصول إلى مستوى تحويل نتف المعلومات إلى استنتاجات قوية، يجري التعامل معها بوصفها حقائق ثابتة، وتصدر القرارات في ضوئها.

في كثير من الحروب يجري تعيين مراسلين حربيين، يتابعون حركة القوات، ويطلعون على حقائق تقترب إلى حد ما من بعض ما هو متاح لضباط الاستخبارات، وهؤلاء هم الذين يثيرون انتباه المؤسسات المعنية والأفراد على مستوى الشعوب من متابعي الأخبار. وكان لافتا ظهور مراسلي قنوات فضائية «مؤيدة للثورة السورية» في خطوط القتال الأمامية في دمشق، مثلما كان مثيرا توقف مثل هذا النشاط فجأة. وقد عرفت وسائل الإعلام الغربية بالجرأة في مثل هذه المواقف، كما حصل للصحافية البارعة ماري كالفن، التي قضت في حمص العام الماضي، ومبعوثي قناة «العربية» إلى حلب ودرعا وغيرهم.

لكن ما يثير التساؤلات هو تغيب أجهزة الاستخبارات الإقليمية عن التصريح والكشف عن معلومات تعكس صورة قريبة إلى الوضع الحقيقي لسير الحرب وتطور الأحداث. ولا يعقل أن تحجب أجهزة استخبارات منغمسة فيما يحدث في سوريا، ولو من باب المراقبة الدقيقة المباشرة، كل مستويات المعلومات وحركة الأحداث واحتمالات المستقبل عن كل من يهمهم ذلك. فواجب الأجهزة ليس فقط الاهتمام بمهمتها المباشرة تجاه قياداتها، بل هي معنية لاعتبارات كثيرة بإحاطة الرأي العام بما يمكن الاسترشاد به في مجالات الحياة اليومية.

وخلاف أجهزة الاستخبارات العربية والإقليمية الأخرى، التي لا تزال تحتفظ بسقف ممنوعات مرتفع، قد لا يكون معظمه ضروريا، نرى الاستخبارات الإسرائيلية هي الأكثر شفافية وتصريحا وتوضيحا. فمنذ بدء الحرب السورية لم أقرأ تقريرا أو تحليلا أو تصريحا لجهاز استخبارات من كل دول المنطقة، بما في ذلك الاستخبارات التركية، التي قد تكون معنية أكثر من غيرها بما يحدث هناك، وهو مما يجعل البحث في قراءة الاحتمالات أكثر تعقيدا. لذلك تكون الأجهزة الأكثر سخاء في المعلومات والرأي أكثر تفاعلا في مشاركة الآخرين لإيجاد حلول، يحتاج إليها المسؤولون السياسيون والعسكريون والمؤسسات الأممية، للحد من ديكتاتورية أو بيروقراطية المؤسسات.

قبل بضعة أسابيع قرأت تحليلا يعكس وجهة نظر الاستخبارات الإسرائيلية حول الوضع العسكري السوري، وما تمكن المعارضون من تحقيقه بقوة السلاح، وآفاق مستقبل النظام وخياراته الرئيسة، ومثل هذه التقارير غالبا ما تنشر من قبل مدير جهاز استخبارات ترك الخدمة حديثا أو لا يزال في موقعه، أو من قبل محلل كبير ضمن الجهاز المعني. وكان هذا التحليل المستند إلى معلومات من مصادر مختلفة هو الأوضح مما نشر آنذاك في ظل غياب دراسات يعوّل عليها من قبل مراكز الدراسات، التي بقي معظمها عاجزا عن توضيح حقيقة ما يجري، بينما الصورة أبسط بكثير من حالة التعقيد.

وهناك من يعتقد بأن الاستخبارات الإسرائيلية بأسلوبها هذا إنما تسعى إلى إبراز كفاءتها وقدرتها على المتابعة لتعزيز مكانة الدولة لدى دول الاهتمام والمجتمع الدولي، وهو اعتقاد يمكن الأخذ به، فيما يذهب البعض إلى توصيف هذا النشاط بأنه محاولة نفسية لإقامة علاقات مع الأشخاص الأكثر كفاءة ومتابعة في هذا المجال على مستوى الإقليم، وهو ما أرى نقيضه تماما، لأن المواد المنشورة تعطي إجابات وافية للمتابعين بما لا يدع حاجة للاتصال المباشر.

على الاتجاه الآخر، هناك من يحرص على بقاء كل تحركات أجهزة الاستخبارات ومعلوماتها سرا. غير أن بقاء سقف الممنوعات مرتفعا يسهم في تقليص فرص البحث عن تقليل المعاناة البشرية من الحروب والأحداث الساخنة، فالإعلاميون كثيرا ما تكون لهم لمسات في تعديل المسارات الخاطئة.. وهذه دعوة للأجهزة المعنية للانفتاح على الرأي العام وعدم التزام الصمت.