مأزق الديمقراطية الطائفية في لبنان

TT

لا شيء يدل على أن الأزمة السياسية التي يمر بها لبنان، مرشحة لحل قريب. وأن الانتخابات النيابية سوف تجرى في موعدها الدستوري. أو أن الحكومة الجديدة سوف تتألف بسهولة. أو أن المجلس النيابي سوف يقر قانونا جديدا للانتخابات. بل إن المرجح حصوله هو تمديد ولاية المجلس النيابي شهرين أو أكثر وأن اعتذار الرئيس المكلف أو تأليف حكومة من خارج القوى السياسية تغضب جميع القوى السياسية المتنافسة على الحكم، أو أن تتمادى الأزمة السياسية الراهنة بانتظار «حدث ما» في المنطقة، أو وساطة عربية كمؤتمر الطائف واجتماع الدوحة، وعلى الأخص حسم الحرب الأهلية الدائرة في سوريا ومعرفة مصير نظام الحكم في دمشق.

صحيح أن هذه الأزمة تحتدم داخل أروقة المجلس النيابي وعلى شاشات التلفزيون وفي الصحف، لا في الشوارع والساحات، وبعيدا عن العنف واستخدام لغة التهديد العلني بالقوة.. بل في أطر سياسية ديمقراطية شكلية. ولكن هذه المعارك الكلامية وهذه المواقف المتنافرة تخفي وراءها محنة بل مأساة وطنية ودستورية وسياسية عنوانها «الديمقراطية - البرلمانية - الطائفية - المذهبية - الميثاقية - الدستورية».

فلو لم يكن في لبنان نظام طائفي - سياسي يوزع الرئاسات والوزارات ومقاعد مجلس النواب على الطوائف، لكان تطبيق الديمقراطية البرلمانية ممكنا وسهلا، ولكان حكم الأكثرية النيابية أمرا طبيعيا. ولقد عرف لبنان قبل الحرب الأهلية تطبيقا لحكم الأكثرية معطوفا على التمثيل الطائفي، وفر الاستقرار والازدهار ونوعا من الوئام أو الوحدة الوطنية، إلى أن نشبت حرب أهلية مزقت الشعب والدولة أنهاها اتفاق الطائف الذي وضع دستورا جديدا للبنان يكرس ميثاق 1943 ويكمله بتوزيع جديد لصلاحيات الرئاسات ومعايير جديدة للتوازنات الطائفية والمذهبية، أرضت القادة السياسيين المسلمين ولكن أشعرت بعض المسيحيين بفقدان دورهم المهيمن على الحكم. وثمة من يرى أنه لولا الوصاية السورية لما تسهل ربما تطبيق اتفاق الطائف لا سيما أنه لم يطبق برمته ورافق تطبيقه نشوء عوامل وتطورات إقليمية وداخلية مخلة بتوازن القوى بين الطوائف والأحزاب، وفي مقدمها نشوء حزب الله المسلح الضاغط على المسرح الانتخابي والسياسي، وظاهرة رفيق الحريري التي هيمنت على المشهد السياسي أعواما، ثم خروج القوات السورية من لبنان بعد اغتياله وانقسام البلاد إلى كتلتين سياسيتين مسميتين بـ14 آذار و8 آذار متنافستين على الحكم الذي أضحت الأكثرية النيابية المولدة له مرهونة بأصوات نواب وليد جنبلاط الثمانية. ثم جاء الربيع العربي والثورة في سوريا ليضغطا على الواقع السياسي اللبناني بقوة. ويزيدا في تعميق الانقسام الوطني فيه.

ولكن تلك العوامل والأحداث لم تشكل المعطلات الوحيدة للديمقراطية البرلمانية اللبنانية، بل إن في مقدمة دستور الطائف بندا يتعلق بلا شرعية كل حكم ينقض العيش المشترك بين اللبنانيين. فلقد فسر أو طبق هذا النص بشكل يجعل من ممثلي أي طائفة في المجلس والحكومة ينسحبون منهما أو يقاطعونهما نقضا للميثاق وللدستور وبالتالي فقدانا للشرعية. فلا شرعية ولا دستورية لأي حكومة إلا إذا أرضت كل الطوائف، ولا قانونية لأي جلسة لمجلس النواب إذا انسحب ممثلو إحدى الطوائف من الجلسة. وهذا نقض للنظام الديمقراطي البرلماني الأكثري.

إن لبنان منذ استقلاله عام 1943 كان يحكم بدستور ديمقراطي برلماني معطوف على ميثاق وطني - طائفي. وإن من أهم أسباب ما تعرض له من أزمات ومحن سياسية كان بسبب الإخلال في التوفيق بين الدستور والميثاق، لا سيما عندما تتأزم الأمور بين الدول العربية أو يحتدم النزاع العربي - الإسرائيلي أو تتنافس الدول الأجنبية والإقليمية على اجتذابه إليها.. وهذا ما يحدث اليوم وما أضافه الربيع العربي والثورة السورية إليها من ضغوط.

كيف سيخرج لبنان من أزمة وضع قانون جديد للانتخابات وتأليف حكومة جديدة ومنع التوتر الطائفي والمذهبي من الانفجار؟ ومتى؟ البعض يرى أن الحل هو في تعديل اتفاق الطائف، وآخر في تطبيقه كاملا. وآخرون يرهنون مصير الأزمة، بل مصير لبنان، بمآل الثورة السورية وبمصير الحكم في دمشق. ويذهب البعض إلى القول بأنه لن يوجد استقرار سياسي في لبنان قبل حسم مشكلة إيران النووية بل وقبل تحقيق السلام بين إسرائيل والعرب.

في هذا الوقت الذي يتنافس فيه زعماء الطوائف على تقاسم المناصب والمغانم، يزداد عدد اللبنانيين المهاجرين ويزداد الدين العام تراكما ويفقد لبنان السياح والزوار والاستثمارات التي يعتمد دخله الوطني عليها. ويتحول الدستور والميثاق من آلات للحكم وتوفير الأمن والاستقرار والحريات العامة، إلى أسباب لتعطيل الحكم وشل المؤسسات العامة والنظام الديمقراطي وإبقاء لبنان واللبنانيين في حالة توتر دائمة.

الدستور والديمقراطية والمواثيق إنما هي أدوات تستعمل من قبل الحكم لتوفير الاستقرار والأمن والسلام للشعب ولخدمة مصالحه، لا لتصبح قيودا تشل الحكم وتعطل المؤسسات وتدفع بالوطن إلى الرقص الدائم على حافة بركان.