الإعلام العربي في المراحل الانتقالية

TT

نظم نادي دبي للصحافة دورته الثانية عشرة الأسبوع قبل الماضي في مدينة دبي، حضر الدورة كوكبة من الإعلاميين وزخمت بعدد من الموضوعات الحيوية التي جرى نقاشها بأعلى قدر من المسؤولية والرحابة. الصور في هذا اللقاء العربي كثيرة ومتنوعة، من الشخصي إلى العام، ومن اختلاف المفاهيم إلى اختلاف الرؤى، ولكن الجهة المنظمة أعلنت أكثر من مرة أنها توفر منصة الحوارات، ولكنها لا تتدخل في مسارها.

لفت نظري أن العنوان الذي تمت تحت مظلته اللقاءات كان «الإعلام العربي في المراحل الانتقالية». فهمي أن عالمنا العربي كله يمر بمرحلة انتقالية، بل هي أكثر من مرحلة، كما ظهر في العنوان، وهذا يعني أننا في محطة الانتظار لقطار سوف يتوجه إلى مكان ما! المعضلة أن لا أحد من المنتظرين يعرف على وجه الدقة أين سوف يتوجه القطار! وعلى كثرة ما في المحطة من صخب وجلبة، لا يتوفر أحد كي يجيب عن سؤال حائر، أين محطة القطار التالية؟

قصدي من كتابة هذا المقال شيء آخر، وهو بالتحديد قراءة توجهات الأعمال الفائزة ومدى تمثيلها لآراء نخبة من المتخصصين العرب، وقد افترضت، وهو افتراض يحتمل الإثبات كما يحتمل النفي، أن هذه الأعمال الفائزة هي محصلة لما ترى النخبة العربية من المحكمين – من دون أن يعرفوا نتيجة بعضهم البعض - أنها ذات أهمية وأولوية اليوم، حيث إن نسبة عالية من ضبط الجودة في التحكيم قام بها المشرفون على المسابقة – وهو شيء أعلمه – كما أعلم مدى الحيادية في النتيجة النهائية. إذن نحن أمام أعمال صحافية قريبة جدا من توقعات وتمنيات وآمال خلاصة من المهتمين العرب، فما هو اتجاه أولوياتهم التي اختيرت من بين نحو أربعة آلاف عمل!

الجائزة تقع في ثلاثة عشر مجالا، سوف أبعد منها سبعة مجالات عن الفحص، الشباب والكاريكاتير والصور، والتخصصية، والعمود الصحافي، والرياضة، وشخصية العام، وسبب الإبعاد عن التحليل أنها أعمال ذات طابع خاص، وتبقى ستة مجالات أخرى، هي الصحافة الإنسانية، والسياسية، والاستقصائية، والحوارية، والاقتصادية، والثقافية (الأخيرة يبدو أنها حجبت).

سوف أعرض هنا للقارئ قراءتي لهذه الأعمال الستة في محاولة لتحليل المضمون، وما دل عليه اختيار تلك الأعمال، وأوجزها في ست فقرات عُجلى، ومتعمدا غفل اسم الوسيلة التي نشر فيها العمل، واسم الصحافي الفائز، لأن ذلك ليس من أغراض كتابة هذا التحليل، كما أن المهتم يستطيع أن يعرف من خلال موقع الجائزة المتاح على النت.

أولا حاز جائزة الحوار الصحافي مقابلة حوارية مع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الدكتور عبد اللطيف الزياني، وهو حوار تطرق إلى عدد من الموضوعات على رأسها موضوعان؛ أولا الاتحاد الخليجي أي الانتقال من التعاون إلى الوحدة، الفكرة التي طرحها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ سنتين، وهو مؤشر إلى القلق الذي يشعر به أبناء الخليج من التطورات التي تحدث حولهم، وهي تطورات عميقة لها تأثير واسع على أوضاع الخليج الآن وفي المستقبل، وتوقهم إلى مخارج سياسية لتخفف هذا القلق، على رأس المخارج التوجه إلى الوحدة، وثانيا في موضوع الحوار كان العلاقة الملتبسة مع الجارة إيران، وهذا يعني في المحصلة، أن هاجس أبناء الخليج اليوم يتشعب إلى جزأين بينهما اتصال لا انفصال، التهديد الإيراني (النووي، والسياسي) من جهة، ويقابله شغف حقيقي باتجاه الوحدة للحصول على مناعة أمام التحولات الجذرية الحادثة.

ثانيا حاز جائزة الصحافة السياسية موضوع عن (السلفية في تونس) وهذه السلفية التي لم يكن أحد من داخل أو خارج تونس من المطلعين يعتقد أنها بهذا الزخم وبهذه القوة الشعبوية وهذا الانتشار، فهي سلفية لها خيم دعوية، وقوافل خيرية ومساجدها الخاصة التي تتحكم فيها من العناية بالنظافة إلى إقامة الصلوات، في مناطق كثيرة من تونس. هنا يجب التوقف أمام المصطلح؛ فالسلفية لها اجتهادات كثيرة منها (السلفية الجهادية) التي تكفر مجتمعها ولا تعترف بالأدوات الحديثة في تسيير الدولة. سطوة الجهاديين هي سطوة حقيقية في تونس وفي غيرها من بلادنا التي زارتها رياح الربيع أو التي لم تزرها، إلا أن درجات هذه السطوة مختلفة بين شدة وضعف. وهو موضوع لفت نظر لجان التحكيم من جهة، كما أنه موضوع معاصر ومهم في صيرورة التطور الحادث في المراحل الانتقالية، التي تمر بها أمة العرب، والدليل أنه بعد أيام من إعلان الجائزة وجدنا موضوع السلفية التونسية (أنصار الشريعة) يتفجر في يد المسؤولين التونسيين، ويثير صخبا إعلاميا وسياسيا لا يزال قائما، وهو يعني أن اختيار الموضوع هو لفت النظر أو قرع الأجراس، حيث إن العلاقة بين مجاميع المتشددين الجدد، والأكثر تشددا منهم، هي التي تسود الساحة العربية اليوم.

ثالثا في الصحافة الاستقصائية فاز العمل المعنون (الباب الملكي لتهريب السلاح في مصر). بعد إعلان الفوز تفجرت في يد السلطة المصرية اختطاف ستة من الجنود على يد (مسلحين) في سيناء. وعلى خلفية الكثير من العنف المسلح في بر مصر، يصف المقال طرق تهريب السلاح إلى مصر من الجوار الغربي من البر والبحر متجها إلى سيناء، التي تحتضن الآن جماعات جهادية بعضها لا يعترف بالدولة، كما أن بعضها له علاقة بتنظيمات تعمل في الداخل المصري أو الخارج، ويعرف كثيرون أن السلاح بأنواعه أصبح متاحا في مدن مصر، يستخدم قليلا تحت ذريعة الدفاع عن النفس، وكثيرا لأسباب أخرى.

رابعا في الصحافة الاقتصادية فاز عمل يتناول العلاقة التجارية الملتبسة بين بعض العرب وإسرائيل، ويلفت النظر إلى هذه التجارة التي لا يرغب في الاعتراف بها أحد رغم وجودها.

خامسا في الصحافة الإنسانية فاز عمل يناقش الاعتداءات الجسدية واللفظية على ذوي الاحتياجات الخاصة.

مما تقدم، فإن النخبة العربية – إن كانت لجان التحكيم تمثل جزءا منها - قد التفتت إلى قضايا مركزية في المرحلة الانتقالية العربية، هي مركزية الخليج للعرب، انتشار جماعات على يمين النخب الحاكمة الجديدة (الإسلام السياسي) تقوم بتهديد تلك النخب وتعمل على نفس أجندتها، مما يوقع الأخيرة في حيرة سياسية، هل هم حلفاء أم منافسون أم أعداء (طريقة تحرير المختطفين المصريين بواسطة جماعات منهم، يدل عل تلك الحيرة)! والمشكلات التي يواجهها الحكم في كل من تونس وليبيا ناتجة في الغالب من تلك الشريحة المتشددة، ثم انتشار السلاح الذي يتسرب على الحدود، سواء السورية أو المصرية أو الليبية أو غيرها يزيد الأمر سوءا.

لقد أشارت جوائز الصحافة العربية هذا العام إلى الأجندة ومواقع الألم التي يريد البعض أن يتغاضى عنها من جملتها، تشدد سياسي واجتماعي، سلاح متاح يؤصل للصراع بدلا من الحوار، وعنف بدلا من حلول مدنية سياسية.

هل يمكن بعد تحليل محتوى الأعمال الفائزة أن نعرف إلى أي مكان سوف يأخذنا القطار القائم من محطة المراحل الانتقالية العربية!

آخر الكلام:

افتقدنا هذا العام حضور الصديق خلفان محمد الرومي، رئيس مجلس إدارة الجائزة، أحد رجال البناء في دولة الإمارات، لعله افتقاد مؤقت إن شاء الله.