الاختلاف الفكري وحقيقة الاعتدال

TT

في حادثة شهيرة وأصبحت لها رمزيتها في الوسط الثقافي العربي، شهد الشيخ محمد الغزالي أثناء محاكمة قتلة فرج فودة عام 1992 بأن الأخير مرتد عن الإسلام وأن كل جريرة من قاموا بقتله هو افتئاتهم على السلطة - أي قيامهم بوظيفتها - في تنفيذ حكم الردة، ولكن هذا الافتئات ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة، بحسب تعبير الغزالي. لاحقا، ذهب أحد الوزراء إلى بيت الشيخ، وطلب منه أن يصرح أو يكتب مقالا يفسر به موقفه من قضية فرج فودة، لكن الشيخ أصر على موقفه، وأجابه: «أنا لم أكتب مقالا في صحيفة، ولا ألقيت خطبة في جامع، ولا محاضرة في جمعية، ولكني استدعيت للشهادة أمام محكمة، فشهدت بما أعتقد أنه الحق الذي أدين الله به وألقاه عليه، فإذا كان في شهادتي بعض الغموض فلتدعني المحكمة مرة أخرى، وأنا أشرح لها موقفي».

الشيخ الغزالي حاول أن يوضح أنه إنما قال رأيه في قضية شرعية بحتة دون مشاركة في التحريض على قتل فرج فودة، لكن ما يربك هذه الصورة النزيهة في إصدار الرأي العلمي البحت دون أي مشاركة في تهيئة البيئة التي تساعد علي تصفية المثقفين أمران، الأول: هو الشهادة الهامة للفقيه طه جابر العلواني، التي تحدث عنها في برنامج «العاشرة مساء» حين أشار إلى أن الغزالي قال له إنه لو قال في المحكمة إنه لا يجوز قتل فرج فودة وإن دمه محرم لقتل هؤلاء الشباب، ولذلك فإنه قال ما قال حماية لهم. أي أن الشيخ الغزالي أراد حماية قتلة مثقف غدر به أمام مكتبه، ولأجل ذلك فقط فإنه جعله مباح الدم واعتبر أن من حق الناس القيام بإقامة الحدود عند تعطيلها، وهو الأمر الثاني المربك والمريع في هذه الشهادة، فالشيخ الغزالي نص في شهادته على أنه من حق أفراد الأمة إقامة الحدود عند تعطيلها، وهو حين يهدر عصمة دم مثقف ويدعي أن من حق الناس تنفيذ حكم الردة فإنه يرسل إلى المستقبل رسالة مخيفة لكل الغوغاء الذين يطاردون المثقفين ويشرعون لأنفسهم إمكانية قتلهم حين لا تقتص منهم السلطة، وهو بالفعل ما التقطه قاتل فرج فودة نفسه، حيث قال أبو العلا عبد ربه - قاتل فرج فودة - في برنامج تلفزيوني عام 2012: «حين يترك الحاكم فرج فودة مساحة للتحرك، فليس له سلطان ولا ولاية في هذه المسألة».واستشهد بشهادة الغزالي.

وهنا يكمن الإشكال في خطاب بعض المثقفين والمتدينين الذي يقدمون أنفسهم كمعتدلين، فحماية بيئة النقاش الفكري تستلزم الدفاع بوضوح عن حق الاختلاف الفكري، وعدم المشاركة في حملات تحريض السلطة أو تحريض الجماهير ضد مثقف آخر تبنى رأيا مخالفا، وهنا يقاس الاعتدال حقيقة، لا بسطحية تقديم وجه متسامح في قضايا فقهية. المفارقة أن بعض هؤلاء المعتدلين حين يهاجم مثقفا لأنه برأيه تعدى على ما يعتبره ثوابت الأمة، يكون هو في ذات الوقت يواجه هجوما أو تحريضا من فئات أكثر تشددا على أقوال تبناها ورأوا هم بدورهم أنها اعتداء على ثوابت الأمة، في دائرة مضحكة ومؤلمة في ذات الوقت من التحريض على المختلف فكريا. ولعلنا نتذكر أن الشيخ الغزالي نفسه كان يواجه هجوما مستمرا من فئات تعتبره منتهكا لثوابت الشرع، وفي مجلس ضم الشيخ الألباني وأبو إسحاق الحويني تم التساؤل إن كان رد الغزالي للأحاديث الصحيحة يخرجه من الملة، فرفض الألباني ذلك إلا أنه لم يفُته أن ينوه بأن الغزالي يشن حربا شعواء على السنة النبوية. ولعنا نتخيل أن الألباني أو غيره أفتى بخروج الغزالي من الملة لرفضه السنة الصحيحة، فهل كان سيحق لأفراد الأمة تنفيذ حكم الردة فيه كما أشار هو في حادثة فرج فودة؟