انطباعيات للشيخ كشك

TT

بعد ظهور زاوية «هتلر ناقدا فنيا» الأسبوع الماضي اتصل بي أحد كبار المثقفين العرب ليصحح كعادته الخطأ، بسيطا أو جسيما. قال: «لقد وضعت بيكاسو مع الانطباعيين». قلت: لا يعقل أن أفعل، لكنها واو العطف وقعت في غير مكانها. أرأيت كم هي اللغة ضنينة بنفسها؟

تحدث عن المدرسة الانطباعية وشغفه بها. وقال إنه كلما زار هولندا ذهب إلى متحف فان غوخ، وفي فرنسا لا يترك متحفا لانطباعي كبير من دون أن يمضي الوقت في تأمل أعماله. ثم أجيء أنا، وبنقطة حبر، أضم بيكاسو إلى مونيه وسيزان!

وعدته أن أصحح، وتمنيت له ألا يبقى فقط زائرا دائما للمتاحف بل أن يمن عليه الله بسعادة الاقتناء. ضحك طويلا، وقال: «هل تعرف حكاية الشيخ كشك»؟ قلت أيها؟ قال اعتاد الشيخ كشك أن يلقي الخطب المعارضة للرئيس السادات. وبعد كل خطبة كان يساق إلى السجن، ثم يفرج عنه حتى موعد صلاة الجمعة التالية، فيكرر الخطاب وتتكرر الرحلة إلى «القاووش».

ثم حدثت المظاهرات الشهيرة ضد رفع الدعم عن الخبز وبعض المواد الغذائية، وكادت القاهرة تحترق. ومن سوء حظ السادات أن الشيخ كشك كان وقتها خارج السجن. فلما حان موعد صلاة الجمعة كان قد أعد خطبة خاصة للمناسبة، بدأها بالقول إنه دخل إلى دكان الجزار وراح يناجي الخرفان المعلقة: أيتها اللحوم الطرية، أيتها العظام البهية، متى موعدك معنا؟ فأجابه الجزار: في الجنة يا شيخ. في الجنة إن شاء الله.

روى الصديق الكبير ذلك، في زمن غير ذي ضحك، لكنني انقلبت على ظهري. فمن في غير مصر، يحول أزمات الفقر إلى خطبة تخفف عن سامعيه وتثقل على من ينتقدهم؟ كان أكثر من ضحك لمناجاة اللحم والعظام، الرئيس المصري نفسه.

هذا هو السلاح المزدوج الذي ابتكره المصريون. النقد بالترفيه عن النفس وتبديد الكرب بالطرب. عندما يغيب كل شيء تظل النكتة حاضرة جاهزة ويطلقها كل من تلتقي. وبعض ألطف وأذكى النكات سمعتها من شيوخ أفاضل، لا يحول العلم بينهم وبين الطبع المصري الساخر، من قتوم الأحوال.

أيام الرئيس عبد الناصر كنا نسمع النكات السياسية من عمال المصاعد ونوادل المقاهي. وكان عمال المطاعم يقدمون «آخر نكتة» وكأنهم يقدمون طبق اليوم. والنكتة التي لم نكن نعرفها هي أن معظمهم كانوا على تعاون وثيق مع الرقابة الرسمية!