الانزلاق نحو مفردات السوق الإعلامية

TT

الوضع القانوني والاجتماعي للمرأة العربية الذي يتفاوت من دولة لأخرى ومن مجتمع لآخر، شأن يعرفه الجميع، وأشكال التمييز ضد المرأة متوارثة منذ عصور التاريخ القديمة، وأسباب هذا التمييز مهما تعددت تبقى متشابهة. جذور اضطهاد النساء العميقة في المجتمعات العربية ليست منقطعة عن جذور القضية عالميا، والدارسون والناشطون في القضية النسوية يتفقون على أن التمييز ضد المرأة هو قضية واحدة عبر التاريخ وعبر العالم اليوم.

الحركات النسوية عموما في المغرب العربي، والناشطات التونسيات الرائدات في قضايا المرأة على الأخص، يعشن قلقا جديدا اليوم بعد الثورة، مع حزب إسلامي حاكم، ومع الإفرازات التي ظهرت على الشارع التونسي وانتشرت داخل الأروقة الجامعية من جماعات متطرفة في رؤاها التكفيرية وتصورها عن المرأة، وعلى الرغم من أنه قلق مفهوم في هذه الحالة، فإن الثقة التي تطرحها المرأة العربية في هؤلاء الرائدات تزداد مع الأيام.

المفاجئ الجديد في خطاب هذه الريادة العلمية والثقافية المغاربية في القضية النسوية، هو التمحور حول نقاط ضعيفة لا يمكن اعتبارها سببا بقدر ما هي نتيجة. تكرار تسمية بعض الحركات الدينية كمنتج لفكر تمييزي ضد المرأة، يبدو انزلاقا نحو مفردات السوق الإعلامي أكثر منه توصيفا دقيقا للحالة. التطرف الديني الذي نزل الشارع التونسي بعد الثورة لم يهبط بمظلاته من طائرات خليجية، بل خرج من البيوت التونسية في قلب العاصمة.

تسمية فكر ما باسمه واجب لغوي، لكن التركيز والاقتصار على الأسماء يهز من رصانة النقد، وقد يفقد هذه الريادة التونسية في القضية النسوية قوتها وتأثيرها على بقية العالم العربي؛ لأن الفكر الذي يؤمن بالحجب الكامل للمرأة ليس وليد الفتوى محددة وحدها. سلفية حزب النور أيضا ليست وحيدة كتيار فكري مصري يجد في وجه المرأة عورة، و«الإخوان المسلمون» جميعا رغم كل عملياتهم التجميلية في رؤيتهم للمرأة، يحملون في جوهرهم ذات الإيمان بأن المرأة ليست إلا «حرمة».

هذه الريادة الفكرية المغاربية التي أثرت المكتبة العربية بالدراسات «الجندرية» عموما، والنسوية على مستوى خاص، تتشوق المرأة العربية لصوتها، والشريحة الشابة في الخليج العربي تضع فيها كثيرا من ثقتها، وتعول عليها بخارطة طريق لوضع المرأة في مجتمعاتها، لكن الانزلاق نحو مفردات السوق الإعلامية قد يجرح هذه الثقة، وقد يخلق حالة من الالتباس في الإيمان بوحدة القضية النسوية. رصانة المناهج العلمية التي أسست لها هذه النخب المغاربية قد تهتز مع تكرار هذه المفردات التي تحولت إلى بضاعة إعلامية رخيصة تشوش على لغة الفكر المنهجي وقيمته العلمية.

رجاء بن سلامة وآمال قرامي من أهم الأسماء في القضية النسوية، وإنتاجهما الفكري الذي يثري القارئ العربي بالمنهجية العلمية والدراسة الفكرية يوضع اليوم في كفة ميزان تقابل كفة حضورهما الإعلامي، هذا الحضور المتورط في استخدام مثل هذه النعوت وغيرهما، يضع المشاهد العربي عموما، والخليجي تحديدا، في حالة تلقي لرسالة لا تعبر بدقة عن قيمة هؤلاء الناشطات الثقافية العالية.

ربما يكون للحديث الإعلامي المتلفز خصوصا ورطة اللغة الشفاهية التي لا تحتفظ بكامل رصانة اللغة المكتوبة، لكن هذا لا يمكن أن يحدث مع كاتبات بقيمة رجاء بن سلامة عندما تعتبر أن المرأة التونسية المنقبة مجرد حالة تتمثل فتوى دخيلة، بينما سبق أن أضاءت بن سلامة وعي القارئ العربي بأن النقاب أعمق كثيرا في جذوره التاريخية من أي حركة دينية في المائة عام الأخيرة، تماما كما أن اعتبارات آمال قرامي أن التونسيين الذين يؤمنون بإعادة ترتيب العلاقات وفق قاعدة الهيمنة الذكورية ليسوا إلا «غرباء عن الشعب التونسي ولا صلة تربطهم بالثقافة التونسية؛ لأنهم مرتبطون بعوالم السلف الطالباني أو غيره، ليست إلا اعتبارات شاذة لمنهجية قرامي وموضوعيتها في قراءة الواقعة الاجتماعية.

إن هذا الإنكار على حقيقة وجود هذه الجماعات التونسية واعتبارها مصدرة من خارج ثقافة تونس التنويرية، هو قراءة متعالية عن الواقع وشبهة شوفينية غير مفهومة من قبل مثقفين بحجم هذه الريادات النسوية. ليس ثمة مجتمع إنساني لا يحتوي بين شرائحه متطرفين وعنصرين وتمييزيين ضد المرأة، وليس ثمة مجتمع عربي خال تماما من الثقافة الذكورية، والنضال الفكري في تونس يحفظ في ذاكرته جيدا تاريخ جامعة الزيتونة.

تصدير هذه الأسماء كآلية إنتاج فكري خاص، ليس إلا تدويرا لنتائج التمييز ضد المرأة، أن يتطهر أي شعب من تطرف أحد شرائحه بأنه مجرد تصدير شعب آخر هو إعادة لتدوير التطرف لا مواجهة له، والتبرؤ من الثقافة الذكورية لن يلغي حقيقة حضورها داخل كل المجتمعات العربية، والاعتبار بأن التمييز ضد المرأة هو فكر لا يصنعه اليوم إلا شعب محدد، هو تسطيح في التعاطي مع حقيقة ضاربة الجذور في كل العالم العربي.