عندما تحن الشعوب إلى الماضي

TT

عندما يحن الناس إلى الماضي، و«أيام زمان»، كما يقولون، باعتباره أفضل من واقعهم اليوم أو مستقبلهم، فإن ذلك يعني أن هناك شيئا خطأ قد حدث.

المفترض أن الزمن يمضي إلى الأمام، وعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، والماضي لا تهمله الشعوب مهما كان قاسيا أو ارتُكبت فيه فظائع، لكنها إذا كانت حالتها النفسية صحية تتعامل معه كتاريخ أو تراث تستفيد منه ويقويها وتتعلم منه، أما إذا حنّت إليه، واعتبرت أن ماضيها أفضل من مستقبلها أو حاضرها، فإن هناك مشكلة.

في البلقان، الذي كان سببا للحرب العالمية الأولى، وشهد في التسعينات أسوأ نزاع دامٍ في قلب أوروبا منذ الحرب العالمية الأولى، هناك موجة تكتسب زخما شعبيا يسمونها يوغونوستالجيا، أي الحنين إلى عصر يوغوسلافيا الموحدة، قبل أكثر من 30 عاما، في فترة حكم الزعيم الشيوعي تيتو.

المدهش أن هذه النوستالجيا لا تقتصر على كبار السن الذين عايشوا فترة يوغوسلافيا الموحدة، لكنها امتدت إلى أجيال شابة ولدت بعد تفكك يوغوسلافيا السابقة، واحدة بعد الأخرى، في التسعينات، إلى 6 جمهوريات، ويبدو أنها تقارن بين واقع حالي، وما كانت تسمع عنه من تعايش في إطار دولة واحدة، فتحن إلى الماضي.

ما يحن إليه الناس هناك، حسب التقارير التي نقلتها وكالات الأنباء، خلال الاحتفالات التي أقيمت السبت الماضي بمناسبة الذكرى السنوية لميلاد تيتو (1892) هو ما يعتبرونه فترة سلام واستقرار خلال حكمه الذي استمر 35 عاما، استطاع خلالها الزعيم الراحل، من خلال قبضة حديدية مخففة ونمط شيوعي أقل حدة من بقية دول الستار الحديدي، أو الكتلة الشرقية السابقة، أن يحافظ على اتحاد بين 6 جمهوريات في كيان واحد، والتعايش بين مكونات هذه الدولة من أرثوذكس وكاثوليك ومسلمين.

وبعد وفاته في 1980، وتصاعد موجة الشعور القومي لكل جمهورية ومكونها العرقي أو الديني، تفكك الاتحاد، وبدأ الصراع نتيجة ما اعتبره الآخرون هيمنة الصرب على الاتحاد، ووصل إلى حد دموي روّع العالم مع المذابح والقتال الأهلي، خاصة في البوسنة، ثم كوسوفو، ليحصد 100 ألف قتيل، ويدمر مدنا بكاملها، ويشرد أو يهجّر ملايين، في أول حرب على أرض أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وتدخل حلف الـ«ناتو» لحماية الأقلية المسلمة من مذابح جنرالات وسياسيين مهووسين يُحاكمون الآن في محاكم دولية.

كانت لحظة جنون استسلم فيها الناس لشعارات سياسيين وجنرالات شعبويين وعنصريين لجأوا، بدلا من حل المشكلات بالسياسة والحكمة، إلى السلاح والترويع والقتل، فرسخوا الأحقاد والتباعد، وسمحوا بالمذابح في عصر لا يقبل أو يسمح بالتطهير العرقي، لم يتقدم أحد اقتصاديا ولم يتحسن مستوى المعيشة، إن لم يكن قد تدهور مقارنة بعهد الدولة الموحدة.

الحقيقة أن الحنين إلى الماضي لا يعني أن هذا الماضي كان كله حسنات، فبالتأكيد أن بذور ما حدث في التسعينات تكمن في يوغوسلافيا السابقة التي حكمها تيتو 35 عاما، فالانهيار بعد رحيله يعني أن النظام السابق لم يضع الأسس الصحيحة للاستمرار بعده في المستقبل، أو أنه لم يرَ جيدا بوادر التحول في النظام الدولي، والظروف الجديدة التي يخلقها سقوط نظريات الاقتصاد الشمولي الموجه السابقة.

هذا لا ينفي مسؤولية الجيل الذي أشعل لحظة الجنون المدمرة هذه، التي دفعت ثمنها الأجيال اللاحقة لها، ورتبت أوضاعا على الأرض تحتاج جهود عشرات السنين لإصلاحها، وقد لا يجري إصلاحها على الإطلاق، وعلى الأجيال التعايش مع تداعياتها.

ليست يوغوسلافيا السابقة فقط وحدها التي ارتكبت أخطاء تدفع الأجيال اللاحقة ثمن تداعياتها، فهناك كثير من النماذج التاريخية لحالات مشابهة، يجري تجاوزها والتعلم منها فيما بعد، فالدول والشعوب تدخل حروبا وتخسرها، أو تتعرض إلى كبوات بأشكال مختلفة وتنهض من جديد، لكن أخطر هذه الكبوات أو لحظات الجنون هي الاقتتال الداخلي، عندما ينقسم المجتمع ويقاتل بعضه بعضا، فيتحول الأمر إلى مثل السرطان؛ خلايا الجسم تدمر بعضها بعضا، على وهم أنها تدافع عن نفسها، فتكون النتيجة تدمير النفس بلا عودة إلى الوراء.

هل هناك دروس نتعلمها في المنطقة العربية من لحظة الجنون البلقانية في التسعينات، التي خلقت اليوم ظاهرة الحنين إلى الماضي قبل 30 عاما كوسيلة هروب من الواقع الحالي؟ الإجابة لا تحتاج إلى اجتهاد كبير، والخوف أنه في بعض مما نراه يجري على الأرض أو أمام أعيننا، فقد يكون الأوان قد فات لتعلم أي دروس، والضرر وقع بلا عودة إلى الوراء.