غاندي والغاندية

TT

راودت أفكار اللاعنف والسلامية ذهن رسل الدين والفلسفة منذ عدة قرون، ولكنها انحصرت في حماية أرواح الإنسان والحيوان من منطلقات روحية وسلبية، غير أنها تماشت أخيرا مع ذهنية العقلانية والعلمانية، فنشر كانْت كتيبا في الموضوع يندد فيه من منطلق فلسفي باللجوء إلى العنف والحرب، ويرسم طريقا جديدا لتفادي الحروب. تبعه في القرن التاسع عشر بعض الكتاب كفيكتور هوغو في فرنسا وتولستوي في روسيا وبرنارد شو في بريطانيا. بيد أن طروحاتهم ظلت محصورة في إطار سلبي يركز على تحاشي حمل السلاح والاشتراك في الحرب والقتال. وأعطى هذا اللاعنف صفة وسمعة سيئة فاتهم أتباعه بالسلبية والخنوع والاستسلام والجبن.

استمر ذلك حتى ظهور المهاتما غاندي الذي طور اللاعنف وحوله إلى جهاد مدني عملي يتضمن النضال الفعال من أجل حقوقك. وبوحيه ظهر مفكرون ورواد، كالبروفسور جين شارب في أميركا، توسعوا في الأسلوب فطوروه إلى نوع شبيه بالحرب ولكن من دون حرب. هناك الآن مئات منهم يقومون بتدريب المجاهدين وتثقيفهم وتعليمهم على «أسلحة» الجهاد المدني، كالمظاهرات السلمية والإضرابات والاعتصامات والصيام والتحديات والمقاطعات والمناوشات اللاعنفية والعصيان المدني. حدثت بعض الاختلافات بينهم. نعم لتحاشي سفك الدماء، ولكن ماذا عن التسبب بأضرار في الممتلكات والخدمات الأساسية للشعب؟

تحدر غاندي من أسرة دينية أرستقراطية محافظة، واتبعها في تقبل الاستعمار البريطاني والهيمنة الغربية وحضارتها. درس القانون في أكسفورد وذهب لممارسة المحاماة في جنوب أفريقيا. وهناك واجه التمييز العنصري ضده كرجل أسمر يحرم عليه الدخول في شتى الأماكن والركوب مع البيض في الحافلات. لاحظ أن الحضارة الغربية التي آمن بها مقصورة على البيض وتحرم السود من أمثاله رغم كل ثقافته وخلفيته. شق عليه أن يرى النظام يحرم إخوانه الهنود من الدخول في شتى الأماكن، فتولى قيادتهم في عمليات تظاهرية تحدى بها السلطات في إطار القانون. ومن هذه المبادرة الآنية اكتشف سلاح الجهاد المدني في مقارعة الظلم بصورة شرعية لا عنفية. أدرك أن الموضوع أوسع من أن ينحصر في حقوق هذه الأقلية الصغيرة من الآسيويين في جنوب أفريقيا، فعاد إلى بلده في الهند ليشرع في تلك العملية الواسعة التي تحدت الأسد البريطاني في أهم ساحة من عالمه الإمبراطوري.

كان غاندي قد اطلع في بريطانيا على تعاليم السيد المسيح والكنيسة وما كتبه تولستوي في رواياته وكتاباته وأعماله، وتأثر بكل ذلك. وفي الوقت عينه أدرك كخريج قانون من جامعة أكسفورد مدى أهمية احترام القانون والنظام والشرعية عموما. ومن هذه المنطلقات رسم خريطة الطريق للاعنف والمحبة. وبدأ بجمع المناصرين لحملته وإعدادهم للعملية الخطيرة التي تنتظرهم والتي قادت في الأخير إلى استقلال الهند، ألمع درة في التاج البريطاني، ومن ثم تفتتت الإمبراطورية وانسلخت مستعمراتها واحدة بعد الأخرى، كما سأتناوله قريبا.