حينما يحزن المغني

TT

بول مكارتني يتحول تدريجيا الى «مسبع الكارات»، فبعد الموسيقى والغناء والرسم والنقد وكتابة الاغاني، قرر ان يصبح شاعرا، وبدأ التحضير لديوانه الاول. اما كيف جاء الشعر وهو على مشارف الستين وليس في الاربعين كالنابغة الذبياني؟ فقصة رواها السير بول لجاسبر جيرارد في مقابلة مطولة مع صحيفة «صنداي تايمز» الاحد الماضي، وملخصها ان الموت هو الذي قاده الى الشعر.

والاشارة الفقدانية ليست الى ليندا زوجته التي اختطفها السرطان قبل عامين، وانما الى صديق له اسمه ايفان فوجان وافته المنية، فغمر الحزن قلب المغني ولم يجد العزاء الا في الشعر خالق جميع الافراح وجامع كل المآسي! ونجم فرقة البيتلز وصانع اسطورتها مع جون لينون، فيه اصلا خامة شاعر لانه كان يكتب اغاني الفرقة بالاشتراك مع لينون، لكنهم في بريطانيا لا يعتبرون كاتب الاغاني شاعرا، ولا يستطيع كل من كتب سبع كلمات تغنى بأي صوت وأي لحن ان يصبح الشاعر الكبير بين عشية وضحاها كما يحصل في بلادنا.

كما انهم ـ وهذه مفارقة اخرى ـ لا يعتمدون بكثافة على الدواوين المنشورة في اختيار كلمات الاغاني، بحيث يغرف من شاء من اي ديوان، فكتابة الكلمة المغناة فن مستقل الى حد ما، ولا يخلطونه مع انجازات اليوت وديلان توماس وكيتس وبيتس وهاردي. وهذا ما جعل الفرق واضحا حتى في ذهن بول مكارتني وهو يكتب ديوانه الجديد ويدرك سلفا ان الشعر ارقى من كتابة الاغنية، وان ما كتبه سابقا من كلمات غنيت ولاقت شهرة واسعة ليس شعرا بالتعريف الدقيق للقصيدة.

والكثير مما كتبه بول مكارتني مع جون لينون يشبه الشعر، لكنه في النهاية ليس شعرا. لكن زواجه بالنغم والصوت جعله اشهر من الكثير من القصائد والدواوين، فهل في جيل السبعينات وما تلاه من ينسى اغنية yesterday، ومنها كما اذكر:

البارحة كانت متاعبي بعيدة وهي اليوم امامي لتظل وتترسخ اني أؤمن بالبارحة فجأة لم اعد الرجل الذي كنت وهذه الاغنية يربطها مكارتني بفقدان الأم، فقد رحلت والدته حين كان في الرابعة عشرة من عمره، وكان العنصر الاساسي في اقترابه من لينون الاحساس بضياع الامومة باكرا، وربما كان ذلك الحزن العميق الذي يلفه الى اليوم من بقايا تلك الايام البعيدة التي اخذه القدر اثناءها من حضن الأم الدافئ وألقاه وحيدا في صقيع الحياة.

وهناك اغنية اخرى كتبها نجما البيتلز لجوليان ابن جون لينون، وهي تحمل اسم الدلع جود، وتبدأ بلازمة لا تفارق اذن من يسمعها «هيه جود» ومنها:

لا تجعل الامور اسوأ مما هي عليه خذ اغنية حزينة واجعلها افضل وتذكر انك لن تستطيع تحسينها ان لم تدخلها عميقا في قلبك وعلى هذه الشاكلة ايضا كانت الاغنية الثالثة help، وهي اكثر شهرة من سابقتيها وفي السياق نفسه من الحزن والاستنجاد بمن يقدر ان يعيد للروح توازنها سواء كان حبيبا او اخا او صديقا او أما حنونة، يداوي جميع الجراح بلسم صوتها ويشفي من جميع الآلام اكسير اناملها.

وها هو بول مكارتني يدرك بعد عمر من الرسم والغناء، ان المعاني الكونية الكبرى لا يصلح للتعبير عنها غير الشعر والموسيقى، ففي هذين الفنين اللذين يتزاحمان على قمة الفنون منذ الازل، تجد الروح الحزينة ـ والفرحة ايضا ـ براحها الشاسع، وتنفذ بالكلمة او اللحن الى عوالم غير مسبوقة تتيح لها التحديق في وجه الابدية والتأمل بدقة وعمق في حقائق الوجود.