نصر الله.. راعي «الطريق الشيعي السريع»

TT

بغض النظر عمّا إذا كان جمهور «الشيعية السياسية» في لبنان ومنطقة الشرق الأدنى مقتنعا حقا بما تسمّيه قيادة «حزب الله» بوجود «مشروع مقاومة»، أم أن المسألة برمّتها مشروع إيراني إقليمي كبير، فإن ما يحدث على الأرض أكثر من كافٍ لتنحية الجدل العبثي جانبا.

مشروع «المقاومة»، الذي يتضح لكثيرين اليوم أنه مجرّد مُسمّى معتمد لضرورات العلاقات العامة، منشغل بتحقيق الغَلَبة الطائفية المذهبية إقليميا بقوة السلاح. وبعد انكشاف حقيقة «علمانية» النظام السوري و«عروبته» - وطبعا «اشتراكيته» - نرى اليوم كيف يتصرّف رئيس الحكومة العراقي السيد نوري المالكي مع المكوّنات المذهبية والإثنية في العراق، وكيف يثبت «حزب الله» أنه «قوة احتلال» في لبنان تماما، كما هو «قوة تدخّل سريع» في سوريا لدعم حكم بشار الأسد.

خلال الأسبوع الفائت، مع احتدام المعارك الهادفة إلى احتلال بلدة القُصَير، ومن ثَم تطويق مدينة حمص وإسقاطها.. وخلق واقع «جغرافي - سياسي - طائفي» في قلب سوريا، ألقى السيد حسن نصر الله أمين عام «حزب الله» خطابا ذا دلالة بمناسبة «عيد المقاومة والتحرير» في بلدة مشغرة بأقصى جنوب غربي محافظة البقاع اللبنانية.

مفارقة كبرى في اختيار مشغرة.. لماذا مشغرة؟ ولماذا الآن؟

لمن يتابع معركة القُصير ومسوّغاتها الطائفية، بما فيها التصدّي لمن يصفهم نصر الله بـ«التكفيريين»، وأبعادها الجغرافية الخطيرة لما ستؤول إليه سوريا، لا يأتي من قبيل المصادفة اختيار أمين عام «حزب الله» بلدة مشغرة لإلقاء خطاب سياسي أعلن فيه رسميا سحب اعترافه بالدولة اللبنانية، ودعا فيه خصومه من اللبنانيين لملاقاته في ميادين القتال في سوريا.

مشغرة، أو مشغرى - كما وردت في بعض المصادر التاريخية، ومنها «خُطَط جبل عامل» للعلامة السيد محسن الأمين - بلدة كبيرة وعريقة في تاريخها الديني والثقافي والمهني. وهي عاصمة صناعة دباغة الجلود في لبنان. ثم إنها بلدة مختلطة طائفيا، سكانها ينتمون إلى ثلاث طوائف دينية، هي: الشيعة والروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس، لكنها على الرغم من إرثها الديني الغني، كانت، حتى الأمس القريب، من معاقل الأحزاب العلمانية والقومية واليسارية في لبنان، وخرج منها عدد من أعلام السياسة القياديين في هذه الأحزاب، لا سيما الحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي، كما خرج منها عدد من أشهر أهل الفن والأدب والموسيقى.

وبالتالي، لم يُعرف عن مشغرة في يوم من الأيام أنها على علاقة عداء أو تنافر مع محيطها من السنّة والدروز والموارنة. بل لقد أسهم انتشار الأحزاب اللادينية في عموم المنطقة المعروفة بـ«البقاع الغربي» (أو الشوف البياضي أو شوف البيادر)، بما فيها مشغرة، ووادي التيم، على السفوح الغربية لجبل الشيخ, إلى بناء نسيج اجتماعي صحي وأخوي عبر العقود.

ما كان يُنظَر أبدا إلى مشغرة على أنها «جسر شيعي» يصل الخزّانين البشريين الشيعيين الكبيرين في جنوب لبنان وشماله الشرقي.

وما كان ينظر إليها أنها «حامية» لـ«الطريق الشيعي السريع» - أو «الأوتوستراد الشيعي» - الذي يصل مدينتي النبطية الجنوبية وبعلبك البقاعية الشمالية، والذي اشتُريت أراضٍ واسعة على طول مساره خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما في بعض قرى جبل الريحان وقرى البقاع الغربي وضواحي مدينة زحلة.

بل ما كان يُنظر إلى ذلك «الطريق» على أنه طريق استراتيجي يهمّ أصحاب «مشروع المقاومة» السيطرة عليه.. ليس لوصل «الخزانين الشيعيين» فحسب، بل أيضا لفصل جبل لبنان السنّي والدرزي والمسيحي عن وادي التيم والبقاع الغربي. واستطرادا عزل البلدتين السنّيتين الحدوديتين الكبيرتين.. شبعا جنوبا، وعرسال شمالا، عن باقي لبنان. وفي هذا الجانب الخطير هدف سياسي متلازم مع الهدف الجغرافي - الديموغرافي يقوم على نسف أي خطة يمكن أن تبقي على الكيان اللبناني قابلا للحياة عبر تطبيق «اللامركزية الإدارية» التي نص عليها «اتفاق الطائف».

«حزب الله»، الذي لم يتحرّج أمينه العام من القول علنا إنه «جندي في جيش الولي الفقيه»، يكشف الآن على لسان قيادته حقيقة دوره التنفيذي المباشر في مشروع إقليمي لا علاقة له بمواجهة إسرائيل - إلا إذا صدّقنا الكلام عن وجود «حلف» بين تل أبيب ومعها واشنطن من جهة و«التكفيريين» من جهة أخرى - ولا ينفي أنه يخوض معركة مفتوحة مع مَن يعتبرهم «تكفيريين» من منطلقات واعتبارات مذهبية داخل سوريا.

ولكن هذا الواقع يطرح سؤالا منطقيا بسيطا، هو كيف سيتصرّف «حزب الله» بناءً على تكليفه الشرعي، إذا وجد «التكفيريون» الذين يتكلّم عنهم «بيئة حاضنة» لهم داخل لبنان؟ ألا يمتدّ التكليف الشرعي للولي الفقيه إلى طرابلس وصيدا وبيروت.. وحتى شبعا، التي تذرّع بها «الحزب» طويلا للاحتفاظ بسلاحه عندما تخلّى جميع اللبنانيين عن سلاحهم؟

نظريا، قد يستغرب الراصد أن لا يربط «حزب الله» وأمينه العام بين تزايد أعداد «التكفيريين» وتسارع التمدّد الإيراني في المنطقة. وربما يستغرب أكثر سبب إحجام واشنطن، وتل أبيب، عن إغاثة «أتباعها» - وفق منطق «حزب الله» - وهم في أمسّ الحاجة إلى الدعم الأميركي - الإسرائيلي بعدما فقدوا أكثر من 100 ألف قتيل خلال سنتين على أرض سوريا.

إن تطوّرات الأسابيع القليلة الفائتة توحي بأن المجتمع الدولي لا يمانع من استعادة نظام الأسد زمام المبادرة عسكريا. وفي ظل تمتّع جيش النظام بالغطاء الجوّي والقدرات الصاروخية و«الضوء الأخضر» حتى لاستخدام السلاح الكيماوي، يجوز القول إن معركة القُصير لم تعد متكافئة. وفي المقابل، يُستبعد إحداث نقلة نوعية في مستوى تسليح «الجيش السوري الحر» أو ضمان توصل المعارضة السورية إلى اتفاق في العمق يؤهلهم للتفاوض كقوى سياسية قادرة على المناورة وتقديم الضمانات وقطع الطريق على فرض جماعات تابعة للنظام، تزعم أنها معارضة، على طاولة المفاوضات.

أما في لبنان، فلا بد من الاعتراف بأن «حزب الله» أنجز القسم الموكل إليه في شلّ مؤسسات الدولة اللبنانية كمقدمة للإجهاز عليها. وقد يكتشف اللبنانيون خلال الأشهر المقبلة حصيلة تعمّد إحداث فراغ في مختلف أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية، بعد القضاء على مُتنفسي الاصطياف والخدمات، اللذين هما عماد الاقتصاد اللبناني.