برميل «الوقود» الطائفي!

TT

ربما كان أكبر إساءة وخطر وتهديد يمس الإخوة «الشيعة» في تاريخهم المعاصر هو تورط حزب الله في قتل الشعب السوري بدم بارد لحماية نظام بعثي تغنى بالبعث والقومية والمقاومة والممانعة، لكنه شكل التجربة الأكثر دموية وديكتاتورية ما بعد استقلال الدول العربية.

جريمة حزب الله لم يجرؤ عليها العراقيون الشيعة في الحرب العراقية الإيرانية، كما أن جريمته لم تلتفت إلى الذين تحزبوا له - كان الإخوان على رأس المتحزبين ويا للمفارقة! - في «نصره الإلهي» ضد إسرائيل، وكان وقتها مجرد انتقاد حسن نصر الله أو الحزب يكفي لأن تتهم بالوقوف مع الصهيونية، فما الذي جرأ حزب الله ليتجاوز السياق الشيعي والإخواني؟

الجواب لا يمكن أن يأخذنا، ويجب أن لا يفعل في أتون التصعيد الطائفي الذي يحدث الآن، لا سيما أن عددا من رموز الشيعة يستنكر موقف الحزب، وإن كانت هذه المواقف لا تزال خجولة، ذلك أنه رغم كل التفسيرات ذات البعد الديني في الثورة السورية تصب في صالح «تديين الصراع»، وقد يكفي أن نتذكر الحرب الضروس بين حزب الله ومقاتلي حركة أمل الشيعية في منتصف الثمانينات في لبنان كجزء من الآيديولوجيا السياسية التي تتفوق على منطق الطائفة، ومن جهة ثانية فإن قراءة تدخل حزب الله بأدوات طائفية يقطع الطريق على الصوت العاقل لدى عدد من رموز وقيادات الشيعة التي تقرأ في الأزمة السورية أبعادا لا علاقة لها بالطائفية أو الثورة الداخلية بعد أن تحولت الأزمة في نظرهم من بعدها السياسي المحلي إلى الإقليمي الدولي.

والحال أن «تديين الصراع» لا يسعفه تفاصيل الموقف الروسي المشين المسنود بالرضا النسبي من الصين والهند وبعض دول أميركا اللاتينية التي لم تعترض على روسيا حين ألقت بكل ثقلها لدعم حليفها الإيراني البعثي في المنطقة، هذا التطابق الروسي الإيراني لا يتصور معه أبدا أن يتساءل المخدوعون بحسن نصر الله وحزب الله ومدى استقلالية «الحزب» عن المواقف الإيرانية، وكلنا يدرك أن ما يحدث في سوريا أكد بما لا يدع مجالا للريبة أن الحزب لا يدار من إيران فحسب، بل يستطيع تجييش مقاتليه لغير معركتهم طمعا في التحول إلى فزاعة في الداخل اللبناني من شأنها تخفيف الضغط على عزلة النظام الأسدي وتوسيع نطاق المعركة على الأرض بعد أن استنفدت بعدها الأخلاقي وباتت أزمة وجودية تنذر بكارثة لن تنجو منها المنطقة بأسرها على المدى القريب.

دخول عناصر مقاتلة من حزب الله هو امتداد للتدخل الإيراني المباشر الذي بدأ تصاعديا، ولو عدنا إلى التقارير سنجدها تتحدث عن رغبة إيران في تحويل ما تبقى من عصابات الأسد إلى «باسداران»، اللقب الذي يطلق على عناصر الحرس الثوري الإيراني، وربما كانت أنباء أول مقاتل إيراني ثلاثيني قتل في دمشق وتم نعته بالشهيد شرارة الاعتراف الأولى بوجود عناصر مقاتلة قادمة من إيران بعد أن كان الدعم لوجيستيا في بدايات الثورة السورية في شكل مراقبة للاتصالات، ثم تحول إلى دعم خبراتي حين قدمت إيران تجربتها في قمع أعمال الشغب والمظاهرات، وذلك عبر أحمد رضا رادان وفقا لتقرير «اللوموند»، ومع تعاظم قوة الجيش الحر قدمت إيران عناصر مدربة لمساندة قوات الأسد ثم تبع ذلك التدخل النوعي من عناصر حزب الله على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، وفي ظل صمت الولايات المتحدة التي تمر بأحد أكثر أوقاتها حرجا على مستوى السياسة الخارجية.

المفارقة أن تدخل إيران وحزب الله لا يمكن مقارنته بفزاعة «القاعدة» والجماعات الإرهابية رغم أنها ظرف طارئ لأنها لا تنتمي إلى دولة، بل كانت وما زالت هذه العناصر محاربة في دولها الأصلية التي تشاطر المجتمع الدولي الآن القلق والترقب في حال انتهاء الأزمة السورية وعودة المقاتلين، فالفرق كبير بين إرهاب الدولة بمؤسساتها وعلى رأسها الحرس الثوري وبحلفائها وامتدادها الإقليمي حزب الله، وبين دعاوى مساندة المقاتلين من الجماعات الجهادية المقاتلة وهي لا تنتمي إلى دولة، فضلا عن أن تكون امتدادا لمؤسساتها، كما أن قتالها لا يطمح لأدوار سياسية إقليمية، وحتى القراءة الارتجاعية لتجربة أفغانستان هي قراءة مضللة حيث التوافق الأميركي آنذاك والمجاهدون هو اتفاق مصالح وليس تحالفا تحت مظلة سياسة إقليمية موحدة.

تعرية الحزب سياسيا ونزع هالات المقاومة وممانعة إسرائيل أهم بكثير من الوقوع في برميل «الوقود» الطائفي الذي يبدو أنه سيشتعل قريبا بعد جرائم القصير، فتقزيم سياسي لحزب الله كفيل بإعطاء الفرصة لمناوئيه سياسيا من الشيعة لتجريمه، كما أنه سيعطي بقية المخدوعين فيه من القوميين واليسار وكل الأحزاب والآيديولوجيات الممانعة تاريخيا مبررا للخروج من الحياد البارد بحجة أنها حرب أتون طائفية بين الحزب و«القاعدة»، ودون هذا التوصيف السياسي لجرائم حزب الله ضد لبنان قبل سوريا سنكون قد وقعنا في الفخ الذي تريده إيران وحلفاؤها، وهو تصوير ما يجري للمجتمع الدولي على أنه مستنقع طائفي سيلطخ كل الأقدام التي تحاول الدخول لانتشال الأبرياء هناك.