كامب ديفيد الثانية تطلق عنصرية يهودية كريهة

TT

والآن، اتضح، وبئس ما اتضح، ان المسجد الاقصى ذاته هو النابض التلمودي الخفي للمواقف المخزية التي وقفها باراك وحليفه كلينتون من قضية القدس في مفاوضات كامب ديفيد.

وينبغي لكل الحريصين على سلام قابل للبقاء ان يحذروا من مغبة شحن السياستين الاسرائيلية والاميركية حيال قضية القدس بخرافات واساطير الاولين وباوهام واباطيل «العهد القديم». لان ذلك لو حدث، وقد شرع يحدث، لكانت الانقاض الحقيقية هي «انقاض السلام» لا «انقاض الهيكل».

لم يأت باراك الى القمة الثلاثية في كامب ديفيد حاملا نعش السلام فحسب، المتمثل في لاءاته وخطوطه الحمراء، وانما اتى حاملا جثة عفنة من مفاهيم وتصورات مضت عليها ثلاثة الاف سنة، وكان صاحبها جديراً بالدفن بعدما اعترف الممثلون الاقحاح للحضارة الغربية الديمقراطية والليبرالية (وكلينتون ليس منهم) بموته. باراك لم يطلب سيادة على القدس الشرقية فحسب، وانما على المسجد الاقصى وما تحته حيث «انقاض الهيكل» التي عليها شيد المسجد! وطلب مكانا للصلاة في المسجد الاقصى! وكاد باراك ان يتبنى دعوة «الاصولية اليهودية» الى تدمير المسجد الاقصى واعادة بناء الهيكل الثاني المزعوم مكانه.

اقتراح معجزة كانت قضية القدس في كامب ديفيد تحتاج في معالجتها الى بصر وبصيرة سياسيتين حضاريتين لا تغشاهما الاوهام والخرافات. وهناك كان باراك يتصل هاتفياً برئيس حزب «بعليا» للناطقين بالروسية وزير الداخلية السابق ناتان شارانسكي ليقف على رأيه ويستأنس به في مسألة القدس، وهو الذي حذر باراك من مغبة ان يكون اول زعيم يهودي يقسم التلمودية مرجعية سياسية وتفاوضية، فقبله عقدت حركة «انصار الهيكل المقدس» مؤتمرها السنوي الثاني، فاعلن احد رموزها ان نهاية العالم قد ازفت، ولا بد بالتالي من اعادة بناء الهيكل اليهودي المزعوم في «جبل الهيكل»، اي حيث يقوم الحرم القدسي.

كان يمكن ان نغض النظر عن هذا الكلام اللاعقلاني. ولكن، في الذكرى الخمسين لاعلان قيام دولة اسرائيل وقف الرئيس كلينتون وقفة كاهن يلقي العظات، ويتحدث عن المعجزات والخوارق، متسائلا عما اذا كان في مقدور الرب الذي اعطى ارض فلسطين لشعبه المختار، بني اسرائيل، ان يجترح معجزة تقسيم هذه الارض بين الاسرائيليين والفلسطينيين! اما شارون فجمع اعضاء السلك الديبلوماسي لا سيما الاوروبيين في القدس الغربية ليخطب فيهم قائلا ان القدس هي عاصمة دولة اسرائيل منذ ثلاثة الاف سنة بموجب الوعد الرباني المزعوم! وفي مناخ كهذا ظهر، اخير وليس اخرا، الحاخام عوفاديا يوسيف الزعيم الروحي لحزب «شاس» الديني (القوة البرلمانية الثالثة بعد حزبي «العمل » و«الليكود»).. ظهر ليقول، وكأنه علم من «مصادر ميتافيزيائية» ان الرب ندم على خلقه «هؤلاء العرب.. ابناء اسماعيل». وتعاطفا مع هذا «الندم الرباني»، وبعدما ابدى الرئيس الفلسطيني صلابة في الموقف من قضية القدس الشرقية في محادثات كامب ديفيد، وصف الحاخام العرب بالاشرار، والفلسطينيين بالافاعي.

الحاخام، اماط اللثام عن هذا «السر اللاهوتي» في وقت كان كبار الحاخاميين في اسرائيل يناقشون مشروعا لبناء معبد يهودي (كنيس) في باحة الاقصى الذي بني وفق زعم ممثلي اوهام «العهد القديم» من رجال دين ورجال سياسة في «دولة شعب الله المختار»، على انقاض هيكل سليمان الثاني، الذي لم يبن الا على انقاض عقل بني اسرائيل! وفي وقت تتجه نية الاصوليين اليهود الى اعادة بناء «الهيكل» على انقاض الاقصى. فالحاخاميون، وعلى ما يبدو، ملوا الانتظار.. انتظار قدوم «المسيح المنتظر» الذي سيجترح حلا للمشكلة الدينية المعقدة، مشكلة دخول اليهود الى منطقة الحرم، فقرروا تدبر الامر بانفسهم قبل ان يجترح «نابليون اسرائيل» اثم منح «الافاعي» نصف «اورشاليم»، وتمكينهم بالتالي من قتل يهود.

وهؤلاء اليهود (الذين يمكن ان يقتلوا على ايدي الفلسطينيين بعد، وبسبب، تقسيم «اورشاليم») لن يكونوا، وفق هذا التفسير اللاهوتي الذي قال به الحاخام عوفاديا يوسيف في سياق اقواله، ضحايا الرب او الفلسطينيين، وانما ضحايا يهود آخرين (مثل باراك) ارتكبوا خطايا، فاليهودي البريء ما ان يتقمص روح يهودي آثم وشرير، مثل روح باراك، حتى يُقتل على ايدي غير اليهود! ظاهرة تستأهل التفسير ان هذا الحاخام ومن هم على شاكلته ظاهرة تستأهل التفسير «غير اللاهوتي». والراهن، ان سر هذه الظاهرة لا يكمن في «التناخ»، بل ان سر «التناخ» نفسه يكمن في تناقضات العيش الواقعية لليهود في مراحل تاريخية مختلفة.

باراك او «نابليون اسرائيل» استشعر خطر الاصولية اليهودية، فاعلن اعتزامه تفجير «ثورة علمانية» في اسرائيل ليدرأ عن هذه الدولة الخطر الكامن في سعي الاحزاب الدينية الى جعل التوراة الاساس الدستوري لها.

ولكن، نسي او تناسى قائد «الثورة العلمانية» ان الدولة التي يرأس حكومتها ويعمل من اجل علمنتها، قامت على اساس من الخرافة والاوهام التوراتية لا سيما خرافة ووهم «ارض الميعاد». ويعلم باراك «العلماني» ان ما من دولة ديمقراطية في العالم الذي نعيش، تدعي ان اقليمها قد منحه لها الرب وان شعبها هو «شعب الله المختار».

ان في معركة السلام فقط، يمكن ان يبرهن باراك على شيء من الالتزام العلماني، فالقدس الشرقية يجب ان تحل مشكلتها بمنأى عن طروحات سياسية مبنية على خرافة ان المسجد الاقصى بني على انقاض الهيكل الثاني، وان المدينة كانت عاصمة اسرائيل او جزءا من عاصمتها منذ ثلاثة الاف سنة.

اما الضفة الغربية فيجب ان يرفع عنها الاحتلال الاسرائيلي، فعودتها الى اصحابها الشرعيين يجب النظر اليها بعين القرار 242 وليس بعين خرافة «ارض الميعاد».

ولتسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بطريقة «علمانية» يجب ان ينبذ باراك «العلماني» فكرة ان عودة قسم كبير منهم الى اسرائيل تقوض الطابع اليهودي لهذه الدولة، فالعلمانية لا تجيز القول بالطابع المسيحي للدولة في فرنسا او الولايات المتحدة. ان القدس الشرقية ـ يا باراك ـ و«حق العودة» واخراج قواتك ومستوطنيك من الضفة الغربية، وليس تدريس التلاميذ الاسرائيليين المتدينين الانجليزية والرياضات، هي المجال الذي يمكنك ان تبرهن فيه على التزامك العلماني.

* كاتب فلسطيني