العملاق الآسيوي الصغير

TT

لا اقرأ جدولاً او احصاء، الا وأجد اسم سنغافورة في المراتب الأولى. اذا كان الجدول عن النمو، برزت فوراً سنغافورة. واذا كان عن الازدهار احتلت تلقائياً الصفوف الأولى. واذا كان تقديراً للمستقبل، حلت سنغافورة في الاوائل. وانا مفتون بظاهرة اسمها سنغافورة. فأنا من العالم الثالث حيث التخلف سيد الموقف. وانا من بلاد غارقة في صناعة الكلام وانتاج الكلام وزرع الكلام وحصد التقهقر. وانا من عالم لا اعرف فيه كم احتاج من الحرية وكم احتاج من العمل ومتى هي السياسة واجب ومتى هي ضياع للوقت، واذ اتطلع حولي ارى ان سنغافورة اكتشفت سر كل شيء. فهي من اكثر بلدان العالم نظافة في منطقة لا تزال فيها المجارير مفتوحة. وهي من اكثر بلدان الارض امناً ومن اكثرها اطمئناناً. وهي نموذج في المحافظة على البيئة ومثال في المحافظة على مستوى المعيشة. انها تتقدم الآخرين في كل شيء. والفارق بينها وبين محيطها المباشر او الأقرب او الأبعد، كالفارق بين «وادي السيلكون» في كاليفورنيا و«وادي الجماجم» في لبنان.

ولا استطيع ان ادعي انني اعرف السر. ففي الغالب اقرأ كل سطر يتعلق بسنغافورة. واقرأ كل كلمة يكتبها مؤسسها لي كوان يو، او تكتب عنه. ولست اعرف ان كان السر في هذا الرجل الخارق ام في الشعب الذي تحول كل فرد فيه الى مسؤول. ام ان السر هو في حجم سنغافورة الذي يمكًّن الدولة من ضبط كل شيء ومراقبة الأمن بالعيون الآلية من دون الحاجة الى شرطي واحد. لكن النتيجة هي الأهم.. وأياً كان العامل الحقيقي فهي دولة اكثر ميزات من سويسرا. فهي مثلها «بلا سياسة» لكنها خلافاً لها، بلا مخدر ايضاً. وهي مثلها مؤلفة من اكثر من عنصر بشري، لكن فيما تقوم سويسرا على الانفصال بين اسرها الاجتماعية، تقوم سنغافورة على الانصهار.

لقد كان من المذهل اقامة مثل هذه الدولة في فقر آسيا قبل اربعة عقود. غير ان لي كوان يو الذي جاء من اوكسفورد الى المستعمرة البريطانية السابقة، كان يحلم بأن يبني وطناً للناس وليس له. ولذلك بنى المصانع لا الاذاعات. وامر الناس بالعمل لا بالاصغاء الى الاذاعة. ومنع التجمع الا للسجود. واغلق السجون ليفتح المدارس. واقام في آسيا نموذجاً مناقضاً لكتاب ماو وثوراته الثقافية. ولم يسمح للمذابح لدى الجارة الاندونيسية بالتسرب الى بلاده. وطبّق حكم القانون لكنه لم يحول بلاده الى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته بورما.

كان لي كوان يو خليطاً سحرياً من اداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل اي شيء حريصاً حقاً على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ اميركا. وجعل لكل مواطن بيتاً بدل ان يكون لكل الف مواطن كوخ من الصفيح. وعندما ذهبت الى سنغافورة عرفت انني في آسيا فقط من الوجوه ذات الاعين المشقوقة. فقد كانت شوارعها اكثر نظافة من مونتي كارلو ومبانيها اكثر حداثة من ناطحات نيويورك.

لا يزال لي كوان يو يقود بلاده من خلال مركز حكومي متواضع. ولا يزال يدعو الى «العلم لكن التحدي الأكبر هو حماية القيم التي نقدر. ان الدفق الهائل من السيئ والصالح الذي تحمله الانترنت قد ينشئ جيلاً لا يعرف الفارق بين الخطأ والصواب. ان الاباحية والسادية على الانترنت تشكل خطراً على المجتمعات في كل مكان. ان العلاقة البشرية الاساسية، بين الآباء والابناء، بين الاصدقاء والرفاق، وبين المواطن والحكومة، هي حقيقة غير قابلة للتغيير».