فلسطين تبحث عن الدولة.. وإسرائيل عن الهوية!

TT

فيما تتجه الدولة الفلسطينية نحو مراحلها الاخيرة، سواء اعلنت اليوم او غداً او بعد غد، تحاول اسرائيل تحديد هويتها القومية والسياسية، وهي في شبه حرب غير معلنة، يتقدم طوابيرها اليهود الشرقيون و«الحاخام الاكبر» عوفاديا يوسف. ويوم الاحد الماضي وقف عوفاديا يوسف خطيباً مرة اخرى امام الاسرائيليين والعالم الخارجي، في وداع زعيم حزب «شاس» السابق الحاخام ارييه درعي، معلنا امام 30 الفاً يشاركون في مراسيم التوديع، ان درعي قد باعه اخوته كما «بيع يوسف الصديق». لكن الى اين كان درعي ذاهباً؟ لقد كان في رحلة الى سجن ايالون، قرب الرملة حيث يقضي عقوبة ثلاث سنوات بتهم تراوح بين الفساد والرشوة.

حركت قضية درعي المجتمع الاسرائيلي مثل حجر كبير ألقي على بحيرة تربض فيها رفوف الطيور. وثار على الفور جدل يشبه فريقاً من العدائين المتنافسين، كان ينتظر صفارة الانطلاق. ودخلت الاصوات في الصحف في نقاش آخر للهوية والدستور وعطلة يوم السبت! وانتحب اليهود الشرقيون من جديد من ظلم الاشكناز الغربيين الذين يشكلون اغلبية ضئيلة في بلد من 4.74 مليون نسمة. ودخل الحاخام المدان، والمكبل بأصفاد الخارجين على «القانون» السجن وهو يقول ان «شعب اسرائيل لم يعرف مثل هذا المخلوق من قبل». ويعني طبعاً ايهود باراك الذي يحاول اخراج اسرائيل من مرحلة الدولة الدينية الى الدولة السياسية. ولم يقفل باب النقاش عندما اقفل باب سجن ايالون على الرقم المتسلسل الذي اعطي لدرعي، وعلى صراخ عوفاديا يوسف، الذي اصبح فجأة في دائرة الضوء في اسرائيل ومثار التساؤلات العالمية: هل هذا الرجل حقاً شريك في حكم دولة تصدَّر الطائرات الى الصين، وتمارس نفوذا لا حدود له في حكم اميركا؟

لقد اصبح اليهود الاميركيون جزءاً من المؤسسة المالية والسياسية الحاكمة لأنهم لعبوا ادواراً مهمة في حقل العلم، وانتسبوا او شاركوا في حركة التطوير في الصحافة والسينما والمسرح والتلفزيون. وهم يشكلون تقريباً ثلث اساتذة الجامعات في نيويورك وواشنطن، كما يسيطرون الى حد ملحوظ على حركة المال والتجارة في معظم انحاء اميركا. ومن هذه المواقع استطاعوا ان ينفذوا الى العقل الاميركي، وان يضمنوا المساعدة الدائمة لاسرائيل، وان يقيموا نوعاً من الترابط العضوي بين مصالح البلدين ومستقبل الطامحين سياسياً في اميركا.

لكن عوفاديا يوسف يقدم الآن للاميركيين وجهاً جديداً لاسرائيل وهو يسير في وداع مختلس محكوم ومدان من القضاء، ومعه 30 الف مواطن، لم يقرأوا بنود الحكم ولم يجدوا في القضاء سوى «وجه آخر من سيطرة الاشكناز» الغربيين على المساكين القادمين من المغرب او من الشرق العربي! الزعيم السابق لـ«شاس» في السجن، والزعيم الحالي يقول ان «الهولوكوست» هو ثمن الخطيئة اليهودية الماضية، اي ان هتلر في النهاية لم يفعل شيئاً سوى تنفيذ حكم الله في اناس تقمصوا الارواح الخاطئة! هذا هو الحزب الذي يحتل 17 مقعداً في البرلمان. وهذا البرلمان ـ او مثيله ـ سوف يقترع على الدستور المقبل والهوية الاسرائيلية. وهذا الحزب الذي يرى في محتال موصوف «يوسف آخر»، يرى ايضاً ان القانون هو سلاح اشكنازي يشهر في وجه مجموعة من الشرقيين المساكين الذين يرى زعيمهم الحالي ان العرب مجرد افاع لا تؤتمن! أليس غريباً ان اسرائيل تدخل، بعد نصف قرن على قيامها، في حرب جدلية كبرى حول شكل الدولة وجوهر النظام؟ وليس المقصود هنا شكل الحكم او اطار النظام. ولكن المطروح على البحث، او الجدل العميق، هو العلاقة بين الشرقيين والغربيين والموقف من العرب كمواطنين او مهاجرين، وكذلك من المهاجرين الآخرين غير اليهود، خصوصاً الروس. اي انه بالنسبة الى بعض التيارات الرئيسية في «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط» يجب ان يبنى المفهوم الفكري على اساس ان متوشالح قد عاش 900 عام (فقط؟) وايهود باراك خطر على الدولة اليهودية واكل الاصداف امر يغضب الله. غير ان الولايات المتحدة عندما «استوردت» «العقل اليهودي» وبهرت به، كانت تعني رجالاً مثل اينشتاين، او مثل العلماء الذين بنوا قوتها الذرية.

تمتلئ الصحف الاسرائيلية الرئيسية بعناوين مثل «غارقون في الانشقاق» و«الثورة الاشكنازية» و«الجميع يشعرون بالظلم». وفي المقابل يدور جدل داخل الشعب الفلسطيني وفي احزابه المختلفة، لكنه نقاش لا يتناول اطلاقاً جوهر الرؤية للشخصية الفلسطينية او الوطن الفلسطيني او الدولة الفلسطينية. والمجتمع الفلسطيني الاقل تطوراً في العلوم والصناعات ومواجهة يوميات الحياة، يبدو منضوياً ومنتظماً تحت مظلة واحدة وضمن هوية واحدة كانت موضع توافق في الشتات وفي الوطن. ويبدو التناقض الوجودي شديداً بين «المجتمع الفلسطيني المقيم» و«المجتمع الاسرائيلي المهاجر» اذا صح التعبير للتأكيد على الفارق بين مجتمع متجانس كان يقيم في ارضه، ومجتمع مهاجر جاء من المشارق والمغارب ليقيم وطناً على ارض لا يعرفها.

وفيما يبدو الفارق في فلسطين طبقياً، كما هو في اي بلد آخر حول العالم، يبدو في اسرائيل متعدد الالياف والابعاد والآثار والتكوينات. ويشكو بعض فلسطينيي السلطة من التضييق على الحريات ومن المحسوبيات السياسية ومن تدخل الشرطة في الحياة اليومية، لكن ليس هناك فريق من المجتمع يشكو فريقاً آخر، ولا هناك مجموعة عرقية تشكو من التمييز العنصري. وحتى حزب «شاس» نفسه نشأ في الاساس على انه حركة اجتماعية تظلمية تدافع عن اليهود الشرقيين وتطالب بمعاملة افضل لهم. غير انه تحول في ما بعد الى حزب يسيطر عليه الحاخامات وخطاب عوفاديا السياسي والديني. ومن الصعب التمييز بين الاثنين ومتى يكون الواحد في خدمة الآخر وفي خدمة الجلباب المذهب الذي يضمن لخطيب الافاعي الوقار والهيبة والرهبة ومكانة سياسية تمكنه من قول ما يشاء من دون محاسبة.

سوف يتأخر اعلان الدولة الفلسطينية لاسباب سياسية واضحة، او بالاحرى لاسباب ومعطيات دولية موقتة. لكنها عندما تقوم سوف يكتشف الاسرائيليون انها تتمتع بوحدة طبيعية بين الناس وبمقومات مجتمعية صلبة وعفوية. فهناك معارضة لياسر عرفات وحكومته، لكن ليس هناك خلاف حول الهوية ومن هو الفلسطيني ومتى يكون كذلك؟ فهو فلسطيني في المخيمات وفي غزة وفي الشتات العربي او الاوروبي. وشروط الهوية هو الذي يضعها لنفسه وليس لجنة او محكمة. وثمة صراع سياسي حول الحكم او السلطة او المعارضة، لكن ليس هناك صراع حول الوجود والاصول والولادة واسلوب الحياة. اما الصراع الوطني الذي بدأ في اسرائيل فلا احد يعرف الى اين سيصل وكيف سينتهي. وأهم ما فيه انه سيرافق قيام الدولة الفلسطينية، فيكون الخلاف هنا داخلياً في العمق ويكون هناك صراعاً مع الآخرين، من اسرائيل الى الولايات المتحدة.