مدرسة فرانكفورت.. من نقد الفكر إلى نقد المجتمع

TT

قدمنا في دراسة سابقة تعريفاً بفكر وفلسفة مدرسة فرانكفورت التي اسست نظرية نقدية للمجتمع. وفي هذه الحلقة نحاول توضيح اهم المحاور التي تقوم عليها وتطويرها الى فلسفة للتاريخ والمجتمع.

ومن المعروف ان البناء الفكري والاجتماعي في المانيا هو بناء فلسفي في اصوله ومقوماته وفي شكله ومحتواه، وان جميع النظريات الاجتماعية والاقتصادية كانت ولا تزال تصطبغ بطابع فلسفي أو هي فلسفات اجتماعية. ومن هنا نجد ان النظرية النقدية ترتبط من جهة بالفلسفة الألمانية المثالية التي تمثلت بصامونيل كانت، وبالفلسفة المثالية ـ الموضوعية التي وقف على رأسها فردريك هيغل وكذلك بفلسفة التاريخ والمادية الديالكتيكية.

وسوف نتعرض بايجاز شديد الى أهم المحاور الأساسية للنظرية النقدية والمفاهيم الرئيسية التي التزمت بها كالعلاقة بين النظرية والممارسة والجدل النقدي ومفاهيم العقلانية التكنولوجية وخاصية النظام الكلياني والاغتراب الثقافي وكذلك مفاهيم الرفض والسلب.

الهيغليون الشباب من اجل فهم افضل للأسس الجوهرية للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت لا بد لنا من استعراض الخلفية الفكرية والفلسفية التي قامت عليها، بحكم صلتها بفكر عصر التنوير والفلسفة الالمانية الموضوعية والمواقف الفكرية التي التزم بها الهيغليون الشباب في اتخاذ موقف محدد من النظام الفلسفي المحكم لمثالية هيغل ومنهجه الجدلي.

لقد تمرد الهيغليون الشباب ضد الجانب التأملي المحافظ في فلسفة هيغل المثالية، ذلك الجانب الذي تفتح في ذات الوقت، عن المنهج الديالكتيكي. وفي الحقيقة لم يكن اتباع هيغل سوى معارضيه من الشباب، وكان على رأسهم كارل ماركس وبونو بوير ولودفيغ فيورباخ وغيرهم، الذين اطلق عليهم «الهيغليون الشباب» الذين اسسوا عام 1841 «حوليات الأدب والفن»، وأرسوا دعائم فلسفة اجتماعية جديدة رفضت الفكر الفلسفي التقليدي، مثلما رفضوا النظام الاجتماعي القائم ومؤسساته، محاولين تطوير الجانب النقدي من الفلسفة والانطلاق منها الى صياغة نظرية جديدة وعلم اجتماع نقدي له مفاهيمه الخاصة وميدانه المحدد، كبديل للفلسفة التقليدية وعلم الاجتماع الوضعي الذي بدأ به اوكست كونت وبخاصة بعد ان توقفت النظرية النقدية التي بدأ بها الهيغليون الشباب في ان تكون نقدية ورافضة وبعد ان تحولت المادية الديالكتيكية التي وضع اسسها كارل ماركس الى مادية ميكانيكية.

لقد كان من الضروري على الجيل الجديد، بحسب هوركهايمر، احياء الماركسية من جديد وبحث الامكانيات التي يمكن بموجبها تغيير الواقع الاجتماعي القائم على التسلط والقهر، وكذلك ايديولوجيته، من خلال نظرية نقدية بديلة.

وهكذا جندت مدرسة فرانكفورت نفسها لإحياء ما دعا اليه الهيغليون الشباب الذين يعودون في تاريخهم الى منتصف القرن التاسع عشر ووضعوا امام اعينهم الارتباط الجدلي بين الفلسفة والتحليل الاجتماعي.

ومثلما عمل الهيغليون الشباب في فهم المنهج الجدلي الذي طوره هيغل، حاولوا وضع تصور جديد لبحث الامكانيات التي تؤدي الى تغيير النظام الاجتماعي من خلال الممارسة العملية. غير ان المائة عام التي مرت على أوروبا كانت قد احدثت تغيرات نوعية عميقة الأثر، مثلما انتجت شروطاً وظروفاً جديدة للعمل النظري ايضاً، حيث لعبت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دوراً كبيراً في تشكيل مقدمات النظرية النقدية. ففي الوقت الذي كتب فيه الهيغليون الشباب افكارهم، كانت المانيا تمر بتحديث رأسمالي سريع، وكانت كتابات شوبنهاور ونيتشة وفيبر وهوسرل، التي اعقبت الهيغليين الشباب، قد سيطرت على الفكر والفلسفة في المانيا بصورة عامة، كما تأسست مدرسة فرانكفورت في وقت كانت فيه المانيا قد وصلت الى مرحلة نوعية متقدمة، بسبب تنامي الاحتكارات وتدخلات الدولة بصورة مباشرة في اتخاذ القرارات الاقتصادية.

ارخ هوركهايمر تأسيس معهد البحث الاجتماعي في جامعة غوته بفرانكفورت بقوله «وقد توحدت الاهتمامات والقناعات لبناء نظرية نقدية للمجتمع، لأنهم وجدوا ان من الضروري التعبير عن كل ما هو سلبي.. وان ما وحدهم هو اتفاقهم على نقدهم للمجتمع القائم وايديولوجيته..».

في عام 1930 تم تنصيب هوركهايمر رئيسا للمعهد وتعيين تيودور ادورنو استاذاً مساعداً في المعهد. وبتعاون هوركهايمر وادورنو اخذ اسم النظرية النقدية في التطور والظهور، وارتبط بمدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع النقدي، خاصة بعد ان وجه هوركهايمر نقداً «للمركزية البولشفية»، ووقف ضد اغتيال روزا لوكسمبورغ واصدار مجلة «البحث الاجتماعي»، التي عبرت في بحوثها النظرية، الميدانية عن رؤية نقدية جديدة.

أزمة العلم من أزمة المجتمع في افتتاحية العدد الأول في مجلة «البحث الاجتماعي» كتب هوركهايمر عن «أزمة العلم» التي لا تنفصل عن أزمة المجتمع والتطور الاجتماعي في أوروبا، التي جلبت للعلم قيوده. فالعلم هو قبل كل شيء وسيلة لانتاج المعرفة، وهو في ذات الوقت قوة منتجة، غير انه لم يدرك بعد وظيفته الاجتماعية، ولذلك فهو يعكس تناقضات المجتمع الصناعي. كما عالج هوركهايمر التشتت المعتاد للعلم وكذلك للعلاقات الاجتماعية التي قادت الى تفتيته، وعلى العلم ان يدرك جميع شروط المعرفة حتى يستطيع تذليل الأزمة، مثلما عليه عدم ترك دوره الاجتماعي المطلوب. وحالما يكون العلم واعياً بوظيفته وبوضعيته المتأزمة، فانه يستطيع ان يطالب القوى الاجتماعية بضرورة تحريكه.

أما ادورنو فقد كتب «اسس علم اجتماع الموسيقى»، واريك فروم «الماركسية والتحليل النفسي» ولو فينتال «واجبات علم اجتماع الأدب»، وهكذا عكس المجلد الأول من مجلة البحث الاجتماعي مرحلة جديدة في علم الاجتماع الألماني واتجاها مفارقاً ينحو الى الاهتمام بالنقد والتحليل السوسيولوجي والنفسي والفلسفي الجاد. وفي الاعداد الاخرى عالجت المجلة اوضاع الطبقة العاملة في المانيا والدول الأوروبية الأخرى.

وفي هذا الوقت ايضاً تأسس للمعهد فرع في جنيف كانت مهمته جمع المعلومات والاحصائيات اللازمة لإعداد دراسات نظرية وميدانية حول الطبقة العاملة، وكذلك اقامة علاقات وثيقة مع منظمة العمل الدولية والتوجه نحو البحوث والدراسات الاجتماعية الأمبيريقية.

في عام 1932التحق بالمعهد كل من هربرت ماركوزه، الذي ساعد على تحريك النشاط العلمي والسياسي في المعهد، حتى اصبحت أفكاره في ما بعد، رموزاً وشعارات «ثورية» استخدمها الشباب والطلاب في ما بعد في نهاية الستينات من القرن الماضي. كما التحق بالمعهد كارل مانهايم وريورغن هبرماس واريك فروم وفالتر بنيامين.

النظرية النقدية في المنفى ان سيطرة النازية على السلطة في المانيا وصعود هتلر الى الحكم عام 1933اضطرت هوركهايمر وزملاءه للهرب الى سويسرا وفرنسا وبريطانيا، ومن ثم الى الولايات المتحدة الأميركية. وفي الوقت الذي صدرت فيه الأوامر باغلاق المعهد ومصادرة مكتبته القيمة، اسس هوركهايمر وزملاؤه فروعاً اخرى للمعهد في كل من باريس ولندن ثم في كولومبيا. غير ان الوضع السياسي في اميركا جعل هوركهايمر وادورنو يتجنبان استخدام المفاهيم الراديكالية، بسبب فقدانهم الثقة بالطبقة العاملة في أوروبا واميركا وكذلك بالبروليتاريا وبالماركسيين الذين اصبحوا تقليديين، مما جعلهم يضعون انفسهم فوق أي حزب، لأن أي محاولة جادة كان لا بد لهم من تحقيقها، ولكن ذلك لم يكن سهلاً. وقد ذكر هوركهايمر ان تحليل الأنظمة السياسية كان قد علمهم، مثلما قال ادورنو مرة «بأن من الضروري ان لا نطالب بالتفكير في المطلق وان نلتزم بلا حدود بالدعوة الملحة من اجل الحقيقة».

وبمساعدة من صديقه روبرت ماكيفر، الذي كان استاذاً لعلم الاجتماع في جامعة كولومبيا اسس فرعاً لمعهد البحث الاجتماعي تابعا ًلجامعة كولومبيا وبدأ بتدريس الفلسفة وعلم الاجتماع ثم ارسل إلى زميله ثيودور ادورنو للالتحاق به في اميركا، بعد ان هاجر الى انكلترا.

وفي الحقيقة فإن هجرة هوركهايمر الى اميركا وخبرته وتجاربه العميقة مع المجتمع الأميركي من جهة وقيام الحرب العالمية الثانية والشكوك التي راودته حول الستالينية والطبقة العاملة من جهة اخرى، كانت قد اثرت فيه تأثيراً عميقاً، مما جعله يضع اهمية على التحليل النفسي في دراساته وبحوثه لفهم المجتمع والحضارة فهماً اعمق.

ومن ذلك الحين اصبح التحليل النفسي جزءاً من اهتمامات النظرية النقدية. وفي هذه الفترة بالذات قدم اريك فروم أهم اعماله في علم النفس والتحليل النفسي.

وكان اريك فروم قد هاجر الى اميركا عام 1932واخذ يعمل بالتدريس والعلاج النفسي. ثم اصبح استاذاً لعلم النفس في جامعة نيويورك، اذ توفرت له رؤية نقدية شمولية للحياة الاجتماعية والنفسية وتوسعت وتعمقت عن طريق الممارسة السريرية حتى اصبحت نظرية عامة وشاملة تتخطى النظم الاجتماعية المختلفة وتتجه نحو تحقيق سعادة انسانية افضل. ومن اهم اضافاته العلمية هو انه اكد على ان التحليل النفسي التقليدي كان قد اغفل الجانب الاجتماعي في حياة الناس، لأنه اعتمد كلياً على الغرائز والدوافع البشرية واهمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الحياة النفسية.

وفي المنفى تطورت النظرية النقدية الى فلسفة للتاريخ والمجتمع، مثلما كان ذلك في عصر التنوير. فالفكر النقدي السلبي يندمج مرة اخرى بالفلسفة، التي تجرد نفسها من أي ادعاء سلطوي او طوباوي. واذا لم يكن ذلك ممكناً، فينبغي عليه ان يكون نسق خير، مع ان موضوع النظرية النقدية ليس الخير، وانما البؤس والشر، لأنها تفترض اعادة انتاج الحياة في اشكال خاصة، جوهرها الحرية وموضوعها الظلم.

يقول هوركهايمر: ينبغي ان نعرض الجوانب الخيرة ونعلن الحب كمبدأ في الحياة، بدلاً من المرارة اللانهائية. والواقع لا يوجد الا تعبير واحد للحقيقة: هو ان اقول: «لا للظلم».

كسوف العقل في منفاه بالولايات المتحدة الأميركية اصدر هوركهايمر عدداً من الكتب المهمة ومن اهمها «السلطة والعائلة»، الذي حلل فيه مأزق العائلة البرجوازية التي هي في الوقت ذاته مأزق وتناقضات المجتمع البرجوازي. ففي مرحلة ازدهار البرجوازية كان هناك تأثير متبادل بين العائلة والمجتمع، وكان لسلطة الأب دور مهم في التربية، أما اليوم فقد انقلب الأمر حيث اصبحت سلطة مستمدة من سلطة السلطة عن طريق علاقتها بالنسق الاقتصادي الكلي. وان تفكك العائلة البرجوازية يعكس تفكك المجتمع التكنوقراطي الذي سبب ضعف الأنا بسبب القهر الاجتماعي وتغير البناء النفسي للفرد وعدم تناسقه وسلبيته.

كما اصدر هوركهايمر كتابه القيم «كسوف العقل» الذي عالج فيه تحجر المجتمع الصناعي وبراغماطبقيته التي تعكس ايديولوجية العالم الجديد، التي تريد عودة العقل المستقل والعقلانية البراغماطبقية والعلاقات المجردة، هدف ـ وسيلة.

والواقع، تحولت النظرية النقدية في المنفى الى فلسفة اجتماعية نقدية من اهدافها نقد النظم السياسية والثقافية. كما تحولت عن فكرة الصراع الطبقي، التي فقدت معناها كأداة تحليلية وذلك بسبب تزييف وعي الطبقة العاملة وتحولها الى اداة بيروقراطية. وعلى هذا الأساس يجب ان يحل الصراع الطبقي والتناقض الاجتماعي على المستوى الثقافي أولاً، ومن خلال النقد والنقد المستمر، وليس من خلال النظام بالوسائل الكلاسيكية، وان تقوم على فهم جديد وفي ضوء ظروف المجتمع الصناعي الجديد التي ادت الى اغتراب اجتماعي.

* كاتب عراقي مقيم في بريطانيا