الحديث عن سيادتين فوقية للفلسطينيين وتحتية لإسرائيل.. وفشل عملية السلام سيولد العنف ويهدد الأردن

TT

رغم ان زعماء العالم توجهوا الى الامم المتحدة للاحتفال بالالفية الثالثة، فان تركيز الرئيس الاميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات سينصب على لقاءات متفرقة تجري بينهم في محاولة لانقاذ عملية السلام وبالذات المسار الفلسطيني ـ الاسرائيلي من الانهيار. وهكذا ما ان وصل باراك الى مبنى الامم المتحدة، حتى حول لقاء الدقائق العشر بينه وبين الامين العام للامم المتحدة كوفي انان الى لفت انظار العالم الى ان عملية السلام وصلت الى منعطف حاسم، وقال اثر انتهاء اللقاء ان الوقت يضيق وان اتفاقا يجب التوقيع عليه خلال اسابيع وليس خلال اشهر. لم يستطع باراك الا ان يوجه تهديده، فهو قبل سفره حاول ان يوحي بان اللقاءات التي ستجري في نيويورك ستكون نقطة انطلاق نحو الحل او نقطة انهيار عملية السلام، وسرّب مكتبه بان على عرفات ان يكون حاملا اقتراحات جديدة عندما يلتقي الرئيس الاميركي في الامم المتحدة، والا فان اي اتفاق لن يتحقق، لكن الوسطاء الاميركيين والمصريين طلبوا منه ان لا يضغط على عرفات فأجل تهديده مبديا استعداده منح الزعيم الفلسطيني فرصة اطول للتفكير. بعد انان، كان من المتوقع ان يلتقي باراك الرئيس كلينتون (امس الاربعاء)، الذي سيلتقي ايضا عرفات، وتأتي كل هذه اللقاءات استعدادا لاحتمال عقد قمة ثانية في كامب ديفيد، لذلك اذا اقتنع المسؤولون الثلاثة بضرورة ان يلتقوا معا في نيويورك او اذا أُعلن عن قمة جديدة اسرائيلية ـ فلسطينية باشراف اميركي، فإن المراقبين عندها سيقتنعون بان عملية السلام عادت الى التحرك بعد فشل قمة كامب ديفيد السابقة في شهر تموز (يوليو) الماضي.

مصادر مقربة من باراك تحدثت عن احتمال لقائه مع عرفات وان امكانية لقاء الاثنين بالرئيس الاميركي واردة ايضا. كذلك من ناحيته لم يستبعد احد مستشاري عرفات، نبيل ابو ردينة، لقاء ثلاثيا ما بين كلينتون وباراك وعرفات او لقاء ثنائيا ما بين عرفات وباراك، اذا وُجد سبب لذلك.

مما لا شك فيه ان الضغوط تتراكم على كل الاطراف ولا يبدو اي انفراج في الافق حتى هذه اللحظة، لذلك اعتبر المراقبون تحذير باراك بأن الوقت يضيق بأنه جدي، لان باراك شخصيا يواجه ازمة سياسية، فهو يتحرك الآن ويسرع بسبب العطلة الصيفية للبرلمان الاسرائيلي الذي سيستأنف جلساته في نهاية الشهر المقبل، عندها من المتوقع ان يطرح الثقة بحكومة باراك وقد يطاح به من الحكم وتُدعى اسرائيل الى انتخابات عامة جديدة. والمعروف ان باراك يعمل منذ فترة كي تكون اي انتخابات جديدة في اسرائيل قائمة على اتفاق سلام بينه وبين الفلسطينيين، فهو يخطط ليتوجه الى الشعب الاسرائيلي وبيده تفاصيل الاتفاق، يطرحه على الشعب طالبا منه التصويت له، اذا ما شعر ان الاتفاق عادل، والا فلينتخب الشعب منافسه اذا ما رأى ان اتفاق السلام غير عادل ولا يوفر الامن الدائم لاسرائيل. هذا ما يريده باراك من اي انتخابات مقبلة، لذلك فانه يواجه هو بالذات توقيتا محددا يمكن ان ينهي حياته السياسية.

هناك من يتوقع ان يقوم الرئيس الاميركي بجولات مكوكية بين جناحي عرفات وباراك في فندق وولدورف استوريا، فهو ايضا يتمنى ان ينهي رئاسته بالاشراف على توقيع ينهي الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني على الاقل، خصوصا انه عالج مسألة السلام عن قرب وعرف عن كثب الزعماء المعنيين بها، ولانه يدرك صعوبة ايجاد حل لها فهو امضى اخيرا اسبوعين كاملين مع باراك وعرفات في كامب ديفيد ولم يستطع الحصول على توقيع الاثنين معا.

في حديث الى «نيويورك تايمز» يوم الثلاثاء الماضي وضع صموئيل بيرغر ـ مستشار الامن القومي للرئيس كلينتون ـ اللوم على عرفات الذي رفض التوقيع على اتفاق يمنحه سيادة جزئية على مناطق «متنازع» عليها في القدس، ولانه رفض القبول باقتراح بديل تقدم به كلينتون، للاعلان عن تسوية تستثني القدس، وقال بيرغر ان شيئا لم يتغير منذ قمة كامب ديفيد وبالتالي لا توجد خطط لقمة ثلاثية اخرى.

وقبل سفره الى نيويورك قال باراك انه لا يفهم لماذا رفض عرفات اقتراحاته وكيف انه فوّت فرصة ذهبية في كامب ديفيد بعد ان كان (باراك) قد وافق على تقسيم القدس؟ واضاف ان على عرفات ان يدرك انه اذا تأخر عن اللحاق بالقطار الاخير فانه سيفقد كل شيء. وبرأي باراك، فان القطار الاخير سيغادر المحطة في نهاية شهر ايلول (سبتمبر).

المصريون من ناحيتهم، يحاولون ان يجدوا حلا لأصعب مسألة في عملية السلام وهي القدس بشكل عام ومن سيسيطر على منطقة الحرم الشريف التي يعتقد الاسرائيليون ان آخر هيكلين يهوديين شُيدا فيها. المتتبعون لعملية السلام منذ انطلاقها لم يفقدوا الامل حتى اثناء حكم بنيامين نتنياهو، ويتكلمون الآن عن ضرورة ايجاد معادلة جديدة تنقذ عملية السلام من الانهيار على اساس ان مواقف الطرفين صارت متقاربة انما الارادة السياسية التي تتحكم بهما ضعيفة جدا.

مصدر اميركي يقول ان مسألة السيادة على الحرم الشريف هي الاصعب والاكثر تعقيدا، ويرى ان باراك اقدم على «خطوة شجاعة جدا لم يسبق لاي مسؤول اسرائيلي اتخاذها، فهو عرض على عرفات السيطرة على الاحياء المسلمة والمسيحية في المدينة القديمة ونوعا من السيطرة الادارية على القدس الشرقية»، لكن عرفات رفض هذا العرض واعتبره ناقصا، وكذلك اعتبره الكثير من الزعماء العرب والمسلمين، لكن عرفات، حسب المصدر الاميركي» «لم يتقدم باقتراحات في المقابل، لذلك من المطلوب البحث وايجاد معادلة تؤدي الى مشاركة فلسطينية ـ اسرائيلية على القدس بشكل عام وعلى منطقة الحرم الشريف بشكل خاص، والا لن يكون هناك اي اتفاق».

ويضيف المصدر الاميركي: لقد مررنا بعدة محطات في عملية السلام قال فيها المراقبون ان هذه المحطة هي الاخيرة وهي الاكبر، لكن في الحقيقة ان الصراع على الحرم الشريف ـ جبل الهيكل هو الصعوبة الاكبر، وليس معروفا من سيرمش اولا: عرفات او باراك.

مصدر اميركي آخر قال لـ«الشرق الأوسط»، ان باراك لا يستطيع ان يتخلى عن جبل الهيكل، لهذا هناك كلام عن «سيادة فوقية» و«سيادة تحتية»، السيادة الفوقية تكون للفلسطينيين وتظلل المسجد والساحة، والسيادة التحتية تكون لاسرائيل، ويضيف، ان ما يصدر من تصريحات عن المسؤولين العرب يوحي بعدم امكانية التوصل الى حل، ويضيف: قد يخسر عرفات كلينتون وباراك، لكن قد لا تنتهي عملية السلام فلكل طرف حساباته وسيعيد دراستها من جديد، وفشل عملية السلام سيزيد الاوضاع سوءا مما يهدد الاردن. ويوضح المصدر الاميركي هذه النقطة بان الاردن يعاني من مشاكل اقتصادية، واذا ما حصل اصطدام «عسكري» فلسطيني ـ اسرائيلي بسبب الحرم الشريف، فقد تمتد نيرانه الى الاردن بسبب تركيبته. ويضيف، انه حتى لو لم يحصل اي اصطدام، فان فشل هذه الفرصة يعني الانتظار سنة تقريبا لاستئناف الاتصالات حول عملية السلام حتى تثبت الادارة الجديدة الاميركية اولوياتها، الا اذا وقعت ازمة في المنطقة عندها ستضطر الى التدخل لمصلحة.. اسرائيل. ويقول المصدر الاميركي، ان مصر تتعرض لضغوط اميركية كثيرة لدفع عرفات لابداء بعض المرونة لكن تبقى المشكلة هي الحرم الشريف و«لست ادري كيف سيأتي الحل». ويضيف، هناك من يقترح تأجيل مسألة القدس، كما اقترح كلينتون في كامب ديفيد، لكن عرفات رفض. الآن، اذا تم الاتفاق على تأجيلها فيمكن للفلسطينيين، على الاقل، الحصول على دولة، لكن السؤال الذي سيطرحه باراك هو: وهل سينهي التأجيل حالة الصراع بين الشعبين؟ «ولا اعتقد ان باراك مستعد ان يوافق على اي شيء لا ينهي الصراع، وعرفات لا يمكنه ان يوقع على نهاية الصراع اذا ظلت القدس خارج الاتفاق».

ويلفت المصدر الاميركي الى ما جاء في كتاب بيل كوانت عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهو انه بعد ثلاثة ايام من خسارة الاردن لمدينة القدس في حرب 1967، اقترح جهاز المخابرات المركزية الاميركية (السي ـ آي ـ ايه) على الرئيس الاميركي ليندون جونسون آنذاك، ضرورة التوصل الى تفاهم حول القدس مع الاردن والا فان القضية بعد ذلك ستصبح غير قابلة للحل. ويقول المصدر الاميركي: الآن، الكل غارق في هذه القضية ولا احد لديه مخرج ولم يعد هناك اي دور للاردن، ولكن قد يأتي الحل ايضا اذا رفضت فكرة السيادتين الفوقية والتحتية، عبر تفاهم طرح اخيرا، بان يعمل مجلس الامن على ترتيبات معينة لادارة الاماكن المقدسة في القدس تشارك فيها عدة دول بينها مصر. ويضيف: انها فكرة لقضية صعبة جدا، والكل خائف من ان يؤدي التعقيد الى تفجير الوضع، الامر الذي يساعد الاسلاميين المتشددين.

ويشير المصدر الاميركي الى ما ذكره مسؤول عربي في نيويورك من ان موضوع القدس حساس جدا ويمكن ان يستغله المتشددون في كافة الدول العربية اذا فشلت كل الاطراف في ايجاد حل خصوصا بعد اجتماع لجنة القدس في المغرب وتوقع انعقاد المؤتمر الاسلامي في قطر في الثامن من تشرين الاول (نوفمبر) بعد يوم واحد من اجراء الانتخابات الرئاسية الاميركية.

المراقبون من جهتهم ينتظرون ما سيُقدم عليه عرفات، ويشيرون الى تصريحات وزير خارجيته فاروق القدومي يوم الاثنين الماضي في القاهرة بان عرفات قد لا يعلن عن قيام الدولة المستقلة في الثالث عشر من هذا الشهر، ويقولون ان هناك عدة اسباب لهذا التأجيل، منها تهديد اسرائيل باتخاذ اجراءات بالمقابل، ثم تلقيه انذارات من الولايات المتحدة بانها ستجمد حتى اتصالاتها به، وابلاغه من قبل اليابانيين بانهم سيوقفون الدعم المادي، وكذلك عدم تشجيع الاوروبيين لهذه الخطوة من دون اتفاق مع اسرائيل. اضافة الى ذلك، لم يجد عرفات اي تشجيع او دعم حقيقي من الدول العربية لمثل هذه الخطوة، لهذا، اذا تراجع عرفات عن اعلان الدولة يمكن ان يخفف من احتمال انفجار الوضع ويعطي بالتالي وقتا اطول للمفاوضات. لكن الوضع صعب على الاسرائيليين وعلى الفلسطينيين، والعنف ليس حلا. الكل يتحدث عن معادلة جديدة يجب ايجادها تدفع باراك وعرفات لابداء مرونة اكثر. كيف؟ لا احد يعرف. لكنْ، هناك اعتقاد لدى جميع المعنيين بالامر، انه في هذا الوقت بالذات على الفلسطينيين والاسرائيليين ان يركزوا من اجل التوصل الى حل مقبول من كل منهما حول القدس يؤدي الى سلام نهائي بين الشعبين.

في اسرائيل هناك توافق على ان بعض الذين يزورون الاماكن المقدسة في القدس يصابون بما اتفق على تسميته بـ«عوارض القدس». حيث يعتقد كل مصاب انه من خارج طينة البشر. ويبدو ان هذه العوارض اصابت باراك وعرفات، لذلك على الاثنين ان يعودا الى ارض الواقع ويصدقا القول: هل يريدان السلام فعلا ام ايهامنا فقط به؟ اذا كانا يريدان السلام فيجب عليهما معالجة المسألة من زاوية اخرى بأفكار جديدة، فالقدس قضية اساسية لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين، ومعالجتها بهذه الطريقة تدفع الاصوليين المتشددين لدى الطرفين، الاسرائيلي والفلسطيني، الى الجنوح نحو العنف واسالة الدماء. ان باراك وعرفات في حاجة الى حكماء حولهما وليس الى سياسيين، فهل هناك مِنْ حكيم يتقدم بحل ينقذنا من وطأة خمسة آلاف عام؟