جروح سراييفو

TT

سافر ابني إلى سراييفو، كما كنت أسافر وأنا في الثلاثين، يقابل الناس في الشوارع والمقاهي البسيطة، وليس في المكاتب وبهو الفنادق. وعاد بانطباع مفرح وأليم: الجروح تلتئم بسرعة أكبر بكثير مما في لبنان. الناس جميعا تنظر إلى المستقبل وتتجنب صور الماضيين، القريب والبعيد. والمدينة الجميلة التي ربض فوق صدرها الحصار 1200 يوم، تتنفس برئتين واسعتين.

العام 1984 كانت سراييفو رمز الوئام العالمي. فالمدينة التي انطلقت منها شرارة الحرب الكونية الأولى كانت تستضيف في زهو الدورة الأولمبية الشتوية. لكن العام 1992 حولها الديكتاتور الصربي سلوبودان ميلوسيفتش والديكتاتور الصربي توغمان إلى ساحة للنزاع الدولي. في أكتوبر (تشرين الأول) خرج مائة ألف من أهل المدينة يرفضون الحرب وفي اليوم التالي دكها الصرب من المرتفعات بالمدافع.

قوى السلام أضعف من أن تربح في وجه قوى الشر. لم ينفع اليوغوسلافيين في الانقضاض على بلدهم ووحدتهم 12 في المائة من الزيجات المختلطة بين صربي وكرواتي وبوسني وسلوفيني وأهل مونتينغرو. وهكذا تحولت سراييفو، بعد بيروت، إلى مدينة أحقاد وكره.

تابعت تلك الحرب عن قرب، أي من لندن، التي أرسلت أوائل الوسطاء، اللورد كارينغتون واللورد ديفيد أوين، كلاهما وزير سابق للخارجية. وكنت معجبا بأخلاقيات الاثنين، على الرغم من فارق السياسة والأخلاق، خصوصا اللورد أوين، الذي أعطاني من وقته غير مرة. كانت يومها القضية الأهم تسلح المعارضة، ووقفت لندن ضد ذلك لما في البلقان من أحقاد دفينة.

تثار هذه المسائل في جميع القضايا المعقدة كما تثار الآن في سوريا: خيام وبطانيات وحليب بودرة أم أسلحة (قاتلة) كأنما هناك أسلحة تداعب ولا تقتل. وأذكر من إقامتي في كندا في السبعينات أن حكومة بيار ترودو منعت بيع الحليب المجفف للناس وحصرت استخدامه بالعلف. وكتبت يومها في صحيفة «لودوفوار»، بل أرسلوه غذاء إلى جائعي العالم الثالث.

ترك المارشال تيتو يوغوسلافيا موحدة ومتطورة. وكانت أيضا مزدهرة ومنفتحة، خلافا للعالم الشيوعي القاتم المحيط بها. وأذكر بلغراد مدينة شعر وأدب وصحافة غير صحافة الحزب. ولم يكن يخطر في بال أحد أن ميلوسيفتش وزوجته ميريانا، سوف يأتيان ولا يبقيان على شيء.