أزمة حكومية أم أزمة سياسية؟

TT

تعيش الأغلبية الحكومية في المغرب، في الوقت الراهن، حالة يعسر التعبير عنها؛ فهي تحمل على طرح السؤال التالي: هل يتعلق الأمر بأزمة حكومية، يرجع الأمر فيها إلى ظهور معالم تصدع في بنية السلطة التنفيذية الحالية أم إن الأمر ينذر ببوادر أزمة سياسية عميقة؟ ذلك أن حزب الاستقلال (وهو أحد المكونات الأربع في الأغلبية الحالية، والقوة السياسية الثانية بعد حزب العدالة والتنمية) قد أعلن، على لسان أمينه العام، انسحاب الحزب من الائتلاف الحكومي الحالي، معللا قراره بالاستناد إلى أحد فصول الدستور المغربي الحالي الذي يفيد الالتجاء إلى الملك باعتباره حكما أسمى وسلطة عليا هي الضامن للسير العادي لمؤسسات الدولة. غير أن ما حدث هو أن الأمين العام صرح في اليوم ذاته، بأنه قد تلقى من الملك (الموجود خارج المغرب في رحلة خاصة) اتصالا هاتفيا يطلب فيه أن يستمر وزراء حزبه في أداء مهامهم الحكومية إلى حين عودة الملك من رحلته ثم الاستماع إلى المسؤول السياسي الاستقلالي الأول، بعد ذلك. وما حدث بعد ذلك هو أن مسؤولا استقلاليا من الموالين للأمين العام الحالي (ذلك أن هنالك داخل الحزب تيارا قويا معارضا) أفاد في تصريح جديد بأن الحزب سيتقدم إلى الملك بمذكرة تشرح دلالة القرار الذي اتخذ في اجتماع المجلس الوطني للحزب (برلمان الحزب) على أن يترك البت في الأمر للملك. ومن جهة أخرى استمر الأمين العام للحزب المذكور في شن انتقاداته اللاذعة للحكومة الحالية وعلى وجه أخص لأعضاء من الحكومة ينتمون لحزب الاستقلال وكذا للأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، العضو في الائتلاف الحكومي الحالي - هذا في الوقت الذي لا يزال فيه حزب الاستقلال مشاركا في الحكومة بل إنه، خارج عن التصريح السياسي عقب اجتماع تنظيم الحزب المذكور، لم يتقدم الأمين العام لحزب الاستقلال إلى رئيس الحكومة بطلب رسمي في الموضوع - كما تقضي بذلك أحكام الفصل 47 من الدستور المغربي الحالي «يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدّر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها (...) ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية». في حين أن الفصل الذي التجأ إليه الأمين العام لحزب الاستقلال من أجل تبرير القرار الذي اتخذ في الجمع الحزبي الذي سبقت الإشارة إليه يعتبر من الناحية الدستورية غير ذي موضوع. يقول الفصل المشار إليه (الفصل 42) في منطوقه «الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام المعاهدات الدولية للمملكة». ومن بديهيات القانون الدستوري أن الحزب السياسي لا يدخل في عداد مؤسسات الدولة حتى يطلب الاحتكام إلى الملك، وإنما هي خصومة سياسية بين حزبين. ويبدو أن ذلك ما تداركه المتحدثون بلسان حزب الاستقلال، إذ أصبحت التصريحات التي تم الإدلاء بها بعد ذلك تكتسي صفة الشكوى إلى الملك من حيف رئيس الحكومة ومن تصرفه بحسبانه رئيسا لتنظيم سياسي وليس رئيسا لحكومة لها مكونات سياسية معلومة تقتضي الالتزام بما تم الاتفاق عليه قبل أن تتقدم الحكومة الحالية ببرنامجها الحكومي وتدافع عنه وتم تخويلها السلطة التنفيذية، باعتبارها سلطة تستند إلى الأغلبية الائتلافية من قبل الأحزاب التي تشكل الحكومة الحالية. شتان ما بين طلب التحكيم الملكي وبين الشكوى إلى الملك: أما الأول فهو سعي دستوري يضبط القانون أحواله ومقتضياته، وليس في القرار الذي أعلنه الأمين العام لحزب الاستقلال ما يسنده من الناحية القانونية المحضة (على النحو الذي يفيده منطوق الفصل من الدستور الذي آثرنا أن نثبته في نصه الكامل الذي لا يحتمل شكا ولا التباسا، فهو واضح ونور وضوحه يعشي البصر، وليس لاستدعاء الفصل المذكور ما يعضده من جهة الدستور المغربي). وأما الثاني فهو سعي مقبول، لا بل إنه مما يحق لعموم المواطنين طلبه في كل الأحوال التي يستشعر فيها المواطن حيفا يلحق به أو ظلما يصيبه. ومن هذه الزاوية فإن موقف الرئيس الحالي للحكومة يأتي مقبولا من الناحية المنطقية الصورية، إذ ينعت الأزمة التي تجتازها الحكومة حاليا بأزمة «الأغلبية» وليس بأزمة «الحكومة». لنقل إن الأمر يتعلق بإعلان الانسحاب من الحكومة مع وقف التنفيذ إلى غاية انتظار الرأي الملكي في موضوع الشكوى التي سترفع إليه. والمثير في الأمر هو أن الأمين العام في حزب الاستقلال قد لمّح، أكثر من مرة، إلى عدم إمكان الاستمرار في حكومة واحدة يكون أحد أطرافها حزب التقدم والاشتراكية.

من الطبيعي أن يخوض رجال الصحافة والمحللون السياسيون في طرح السيناريوهات البديلة الممكنة، وهي لا تخرج عن أحد ثلاثة: إما الإعلان عن انتخابات تشريعية سابقة لأوانها فتكون الحكومة المقبلة هي تلك التي سيحكم صندوق الانتخابات بكيفيتها (حكومة أغلبية ينالها حزب واحد أو ائتلاف سياسي جديد ممكن). وإما لجوء الرئيس الحالي للحكومة، بطلب من الملك، باقتراح تشكيلة أغلبية جديدة لتعويض الفراغ الذي سينتج عن انسحاب حزب الاستقلال (وفي الدستور المغربي يتعلق الأمر بإعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة إما بطلب من الملك، بعد استشارة رئيس الحكومة أو بتقدم رئيس الحكومة بطلب في الموضوع إلى الملك). وإما أن يطلب الملك من الرئيس الحالي للحكومة، باعتبار حزبه صاحب الترتيب الأول في الانتخابات التشريعية الأخيرة. غير أن الملاحظين يميلون إلى الاعتقاد بأن سيناريو الانتخابات السابقة لأوانها غير وارد - وربما كانت الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة اليوم لا تحبذ ذلك لاعتبارات شتى (تنظيمية وسياسية أيضا). يظل الممكن، سياسيا، إذن هو أحد الاختيارين الآخرين.

في هذه الصورة يغدو الحديث عن «أزمة حكومية» أمرا متعذرا بعض الشيء (في الوقت الراهن على الأقل)، ولعل الأقرب إلى الصواب أن يكون الحديث عن أزمة سياسية أو، بالأحرى، حديثا عن «أزمة سياسية». وليس الأمر عندنا متعلقا بـ«حذلقة لغوية» ولا بجنوح إلى السفسطة والتمويه بل إن في الأمر ما يشي بوجود أزمة فعلية، لا متوهمة أن يجتازها حزب سياسي عريق له بنيات وهياكل راسخة، غير أن سُنة الحياة ومقتضيات التطور تدفع بالأزمة إلى السطح وإلى الظهور، والأزمة، في الطب أساسا علامة صحة ودليل على وجود الفاعلية والمقاومة. يتعلق الأمر إذن بسياسة تقتضى المصلحة العليا للوطن مراجعتها بل وربما الاعتذار عنها متى توفرت الشجاعة الكافية.