اجتلاء منهج الفصل بين الإسلام وسوء تطبيقه

TT

لا نتمنى العثار لأحد من البشر، ولو كان كافرا. فليس يهنأ المسلم بأن يظل الكافر على كفره، أو يظل محروما من حظوظ الدنيا ومباهجها التي قدرها الله جل ثناؤه للناس أجمعين؛ مؤمنهم وكافرهم: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).. كذلك، لا نتمنى العثار لأحد من المسلمين؛ فهذه أمنية نقيض لعزيمة أن يحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه.. من هنا، شعرنا بأسى يحرق الحشا ونحن نقرأ - مثلا - تقريرا حكوميا مصريا يفيد بأن مصر ستواجه (مجاعة) مهلكة بعد خمسة أشهر إذا استمرت الحال على ما هي عليه.. نعم. لسنا نتمنى العثار لأحد من أسرتنا البشرية، بيد أن الأمر ليس بالأماني، فمن يشذ عن المنهج أو يعمل سوءا ينطبق عليه القانون العام: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ). وهذه نقطة تتطلب تأصيلا منهجيا معرفيا في قضية (التفريق الواجب) بين الوحي - المتمثل في الكتاب والسنة - وتطبيقات المسلمين له.

مذهب أهل المدينة هو (قوام) مذهب الإمام مالك ومصدره، ومن يقرأ نتاج مالك العلمي يلتقي كثيرا بقوله: «والذي وجدنا عليه أهل العلم ببلدنا» – أي بالمدينة المنورة.. ولقد شهد ابن تيمية، (وهو حنبلي المذهب)، بحجية وسداد مذهب أهل المدينة وقدمه على غيره من المذاهب!

ومعروف أن الإمام مالك هو أحد شيوخ الشافعي.. ومع ذلك كله، لم يسلم الشافعي - بإطلاق - بمسلمة شيخه في حجية عمل أهل المدينة، بل قال كلاما مفاده أن «سلوك المسلمين ليس حجة على الإسلام، إذ الإسلام هو قال الله، قال رسوله».. وإذ تنبه الشافعي، بذكائه الوقاد، وبصيرته النافذة، إلى قضية التفريق بين الإسلام وتطبيقات المسلمين، إذ تنبه إلى ذلك في وقت مبكر، وفي تجربة قريبة من عصر النبوة، فإن هذا التفريق أولى وأوجب في عصرنا هذا، الذي أصبح سلوك المسلمين فيه – في الغالب - تشويها للإسلام من خلال سوء تطبيقه.

إن ألوف المسلمين اليوم يحملون السلاح فيقتلون ويغتالون وينسفون ويدمرون.. يفعلون ذلك تحت اسم (الجهاد)، فهل دعواهم هذه صحيحة في أنهم يمارسون الجهاد الحق الذي شرعه الله ورسوله بشروطه المعروفة التي ليس من بينها - قط - هذا العنف الدموي الذي عرف باسم (الإرهاب).

إن هذا العنف الدامي إنما هو وليد الغلو المحرم في منهج الإسلام. ولذلك، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلى الناس صوتا ضد الغلو والعنف معا.. ونرى أنه من حكمة ذلك، أن النبي أراد - بتوفيق ربه وهداه - أن يفرق بين الإسلام الحق ونزعات الغلو والعنف التي تعتري بعض المسلمين، فلنصغ إلى النبي:

1 - وهو يقول عن الغلو:

أ - «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».

ب - «هلك المتنطعون (ثلاث مرات)».. والمتنطعون هم الخارجون عن منهج اليسر والاعتدال؛ جهلا أو هوى من عند أنفسهم.

ج - «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم».

2 - ولنصغ إلى النبي وهو يقول عن العنف:

أ - «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق، حرم حظه من الخير».

ب - «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».

ج - «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».

د - «من حمل علينا السلاح فليس منا».

ه - «من سل علينا سيفا فليس منا».

و - «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما».

ز - «من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه»، وإذا كانت الإشارة بحديدة تجلب اللعنة، فكيف بمن يذبح أخاه ويفجر ويقتل الناس بالجملة؟!

إن الفصل والتفريق بين منهج الإسلام الحق وهذه الممارسات الجهول التي تمارس باسمه، واجب ينبغي أن يؤدى أداء لا قضاء.. ومن أولى بنبي الإسلام من النهوض الناجز بهذا الواجب الكبير. ولذا، سمعنا آنفا كلماته المدمدمة على الغلو والعنف - صلى الله عليه وعلى آله في الأولين والآخرين.

ولهذا المنهج الدقيق الذي يفصل بين المبادئ الصحيحة لذاتها والتطبيقات الخاطئة لها.. لهذا المنهج (جانب إنساني) أيضا، ونعني بالإنساني: سعته ليشمل علوما ومعارف وتطبيقات إنسانية شتى.. فمن خصائص علم الفيزياء - مثلا؛ اكتشاف الطاقة الكونية، وتسخيرها لخدمة الإنسان، وترقية الحياة، لكن سوء التطبيق البشري لهذا العلم حول بعضه إلى (كارثة) تهدد الكوكب الأرضي كله بالهلاك. فلدى الدول التي تملك أسلحة نووية مخزون من ذلك، يدمر كوكب الأرض ثلاث مرات!! وإذا كان ليس معقولا أن يطالب أحد بإلغاء علم الفيزياء بسبب سوء تطبيقه، فليس معقولا أن يطالب أحد بالإعراض عن الإسلام وتنحيته عن حياة الناس بسبب سوء تطبيق المسلمين له.

ونعود إلى التطبيقات السياسية للإسلام التي صاحبت وأعقبت ما سمي (الربيع العربي)، فنقول: هل كان من الضروري القفز إلى الحكم باسم الإسلام في عدد من بلدان الربيع العربي؟ لا نجد هذه الضرورة قائمة.. فمن تعريفات الضرورة، أنها هي الأمر أو الموقف الذي إذا لم يباشره الفرد أو الجماعة هلك أو هلكت.. ومستحيل أن يقنعنا أحد بأن (الإسلاميين) كانوا سيهلكون - حتما - إذا لم يقفزوا إلى السلطة.. وبانتفاء الضرورة، ينفسح المجال إلى سؤال أو أسئلة أخرى منها:

أ - لماذا يحمل أولئك أنفسهم ما لا يطيقون؟ أليس في هذا التحمل مخالفة صريحة للمنهج الذي يلوحون بشعاراته؟ إن المنهج يقول - كما في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ).. ويقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).. أليس من الالتزام بالإسلام تطبيق هداه ها هنا؟ أليس من الإعجاز الواقعي لهذا الهدى أن الذين خالفوه قد تحملوا ما لا يطيقون من إرث وركامات من الفشل في كل شيء تقريبا؛ في المعايش والأمن والاقتصاد وسائر الخدمات؟ هل رضوا بأن يكونوا (كاسحات ألغام) تكسح المشكلات والهموم والبلايا خدمة لمن يجيء بعدهم؟!

ب - من هدى المنهج، التحرر من (الحرص) على الحكم والسلطة.. ولنصغ إلى النبي وهو يحذر من الحرص الوبيل على السلطة:

- روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها».

- وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم».

- وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة».

فهل مخالفة هذا المنهج النبوي هي التي أوبقت أولئك الحريصين على السلطة، وورطتهم ورطة تاريخية كبرى: «فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم».