من ينقذ لبنان من اللبنانيين؟

TT

إذا صحت مقولة أن الإنسان عدو ما يجهل، يصح الادعاء بأن شريحة واسعة من اللبنانيين تجهل البعد الحضاري للبنان و«تعاديه» من دون كبير اعتبار لتداعيات انهياره بوصفه تجربة تعددية استثنائية في الشرق الأوسط. ومن يلاحظ التدهور المتواصل - وربما الممنهج - لأوضاع لبنان السياسية والأمنية لا يسعه إلا أن يتساءل اليوم عما إذا كان لبنان قابلا للاستمرار في إطار كيانه الجغرافي - الإثني الراهن.

باستثناء قطاعه المصرفي الذي نجا، حتى الآن، من ممارسات سياسييه الأشاوس، لم تبق في لبنان سلطة واحدة سليمة يمكن الركون إليها كأساس واعد للبنان الغد في حال صحت تمنيات القلة المتبقية من المتفائلين بعودة الدولة إلى لبنان - والأصح عودة اللبنانيين إلى كنف الدولة - خصوصا بعد أن أصبح العمود الفقري للكيان اللبناني، أي مؤسسته العسكرية، مستهدفا من كل حدب وصوب ومن كل فئة لا تروق لها سياسة الدولة.

في أعقاب حوادث طرابلس وصيدا وعرسال، أصبحت آخر ضمانة ممكنة للكيان اللبناني الموحد مهددة بالانفراط. ومن يعتقد بأن استهداف الجيش اللبناني على أكثر من جبهة داخلية واحدة في هذه المرحلة الحرجة - عسكريا ودبلوماسيا - من مسيرة النزاع السوري هو مجرد تطور فرضته معطيات المرحلة يتجاهل أن «التصويب» على المؤسسة العسكرية اللبنانية بدأ منذ «الوجود» السوري في لبنان، وتحديدا منذ استثناء سلطات الوصاية السورية، بعد اتفاق الطائف، تنظيم حزب الله المسلح من قرار جمع أسلحة الميليشيات اللبنانية.

إذا كان من الإنصاف الاعتراف بدور تنظيم حزب الله في صد العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2005 فقد كان من الإجحاف بحق الدولة اللبنانية ومفهوم العيش المشترك في لبنان، أن يستمر استثناء حزب الله والمخيمات الفلسطينية من قرار حل الميليشيات ونزع سلاحها.

ورغم أن الأمم المتحدة دخلت على هذا الخط بمطالبتها، بموجب القرار 1559، نزع سلاح هذه الميليشيات فإن نجاحها في إلزام سوريا بالانسحاب من لبنان «عوضته» سوريا بتعزيز وضع الميليشيات التابعة لها في لبنان، بمساهمة سخية من إيران. وفي المقابل بقيت عمليات التسليح الأميركي للجيش اللبناني «خجولة» بحيث لم تتجاوز، في أحسن الحالات، إمداده بآليات ومعدات تقليدية لا تشكل خطرا على أمن حدود إسرائيل الشمالية.

واللافت في هذا السياق أن الأمم المتحدة، التي اتخذت القرار 1559 بموجب الفصل السادس من ميثاقها، أسهمت من حيث تدري أو لا تدري في تآكل هيبة الدولة في لبنان بعد أن قصر أمينها العام، بان كي مون، آلية نزع سلاح الميليشيات اللبنانية بـ«الحوار» (التقرير نصف السنوي الثامن)، في دولة تعطلت فيها لغة الكلام بين السياسيين منذ «ثورة الأرز».

ومنذ ذلك التاريخ وأعداد صواريخ حزب الله تتكاثر في لبنان والنفوذ العسكري يتنامى إلى حد تكريسه هدفه «الأسمى»: حرمان الدولة من أبسط مقومات سيادتها أي احتكار السلاح الشرعي على أراضيها.

لا جدال في أن تكرار حوادث استهداف الجيش اللبناني تعكس اليوم الخلل القائم بين موازين القوى الشرعية وقوى «الأمر الواقع» وتشجع البعض على التمادي في تحدي الدولة. إلا أنها، في نهاية المطاف، لا تبشر خيرا بعودة قريبة للدولة بعد أن «استقوت» بعض الميليشيات، وحتى بعض العائلات، على مؤسساتها وتحدت هيبتها.

لبنان متروك الآن «لهمة» أبنائه الساعين إلى إدامة وضع «الأمر الواقع» فيه ولو استتبع ذلك تقويض ما تبقى من نظامه السياسي التعددي، كما يستدل من حماسة بعض أقطابه للتمديد لمجلسه النيابي وربما لكل مؤسساته الدستورية.

وفي وقت أصبح فيه التزام اللبنانيين بمذاهبهم أمتن من التزامهم بمجتمعهم، وأصبحت فيه المفاخرة بالعمالة لدولة خارجية - ولو غير عربية - ضربا من ضروب «الوطنية»، وفي وقت تحولت فيه المقاومة الوطنية إلى حركة جهاد ديني، لم يعد السؤال من يعيد اللبنانيين إلى الدولة بل.. من ينقذ الدولة من اللبنانيين - أو بعضهم تحديدا؟