عين المعنى ووجه المبنى

TT

أجمل الأشياء تحصل من دون ميعاد، وأعمق ما نتذكره ما جاء صدفة.

الدهشة هي روح الاستمتاع بالحياة وجوهره، إن جفت جف معها الندى، وتاه الصدى عن الصوت. لذلك اتبع فضولك في التعرف على الحياة، ستجده دليلا يوقفك على عجائب وغرائب، على أمل، وألم، على بحر وبر، وسهل ووعر، وورد وشوك. إنها ميزة الحياة، ومن لا يجرب ولا يغامر يخسر كل شيء!

قبل عشر سنوات، بدأت مشوار الكتابة المنتظمة في هذه الجريدة، في مايو (أيار) 2003، وكان ذلك كله بلا عزم سابق، ولا تخطيط وتربص، ولا نية مبيتة على الانتظام في مدار المقالة، ومسار الكتابة.

ها قد طُوي العقد كما تُطوى لفائف الكتان، على ما فيها من بوح وكتمان، ونركض.. نركض في عجلة الراهن والآن، بلا توقف، ولا لحظة تأمل هادئة.

أوهكذا تمحى الصحائف كلها سطرا فسطرا؟

أوهكذا تمضي الركائب تحمل الأيام قسرا؟!

وبعد، إنما أردت أن أناجي لحظات مضت، وأقول بعد هذا إن لقاء القارئ الكريم في هذه المساحة اليومية سيكون من أجمل اللقاءات بالنسبة لي، فيها رحلة مشتركة أتمنى أن تكون ممتعة ومفيدة، والاختصار والتكثيف هو بحدّ ذاته تحدٍ وجديد.

قوالب الكتابة الصحافية، من مقالة رأي، إلى تعليق عمود، إلى تقرير أو تحليل خبري، أو تحقيق موسع، أو حتى كتابة خبر مباشر، ليست إلا غصونا متفرعة من جذع شجرة واحدة، هي شجرة القول الصحافي.

المهم هو جودة المضمون، وجمال التعبير، لا يغني أحدهما عن الآخر.. جمال بلا مضمون، قشرة سريعة الذوبان. مضمون بلا جمال كلحم جملٍ غثٍّ، على رأس جبل وعر، لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقل.

وأذكر أنني قرأت هذا المعنى عند الراحل، الوزير والأديب والدبلوماسي، غازي القصيبي، وهو يتحدث عن ضرورة توفر هذين الشرطين ليستحق النص البقاء. أما الاختصار فهو ليس كما يتوهم كثرة كاثرة، سهل المنال، بل هو شرط عسير من شروط القول الرفيع، وقد تحدث أمراء البلاغة، وصيارفتها في التراث العربي، البعيد منه والقريب، عن صعوبة هذا الشرط، ولذلك تميز به الآن ثلة قليلة من الكتّاب العرب، منهم أحمد رجب في مصر، وسمير عطا الله في هذه الصحيفة الخضراء، كل على طراز خاص.

لصعوبة هذا الشرط حدّد أحد علماء البلاغة العرب الشرط الواضح للإيجاز البلاغي الممدوح، وهو أبو الفتح ابن جني (توفي 392 هجري)، فقال ببلاغة هو الآخر عن الاختصار الممدوح: «إصابة عين المعنى بالكلام الموجز».

أسعد بكل من يتفضل بالقراءة والإفادة بنقد أو علم، أو مليحٍ من القول.